الأحد، 22 ديسمبر 2024

شكيب أرسلان | علال الفاسي



 شكيب أرسلان

  علال الفاسي

ليس هنالك رجل تتعدد جوانب حياته، وتتشعب مظاهر أعماله كشكيب أرسلان الذي ساير النهضة العربية والإسلامية منذ بداية عهدها، وساير التقلبات التي سارت فيها الشعوب العربية والمسلمة قبل أن يتبلور عندها الاتجاه الغالب اليوم وهو الاتجاه القومي الخالص.

وشكيب ليس من أولئك القادة الإقليميين أو المحليين، ولكن البطل الذي عم كفاحه كل جوانب المحليين، ولكن البطل الذي عم كفاحه كل جوانب الأرض المسلمة، ولذلك لا مناص من أن يكون تفكيره تفكيرا شموليا لا تقف به الحدود ولا تضيق به الاعتبارات ؛ إنه لبناني وشامي وعربي، ولكنه مع هذا وذاك عثماني ومسلم.

والذين يتلمسون اليوم روح القومية عند شكيب، تختلط عليهم الأفكار وتتبلبل عندهم الآراء بسبب هذه الدعايات الغربية التي ما بذلت من جهد بقدر ما بذلته في سبيل تفريق كلمة المسلمين وبعث الشعوبية الضيقة في أوطانهم، أما شكيب والقوميون الأحرار أمثاله فهم لا يجدون هنالك تناقضا بين أن يكون الرجل قوميا وإسلاميا أو عالميا أي إنساني؛ إن كل هذه الأشياء تتحد في حقيقتها حينما يصغي المرء لضميره ويبدأ في العمل لتحرير قومه والطائفة التي ينتمون إليها ليجعل منهم أداة صالحة في مجتمع إنساني أفضل.  

وتلك هي المبادئ التي كانت تغمر قلب شكيب وتوجهه في سائر أعماله.

كان مسلما يعرف كل محاسن الإسلام ويناضل عنها، ولكنه ما كان يقف موقف المتعصب إزاء أبناء قومه من رجال الملل الأخرى، المسيحي في لبنان وسوريا كمثل ما حظي به شكيب في أخطر ظروفه وأقواها، وهي ظروف الاتهام الذي وجه إليه بسبب دفاعه عن مسلمي الحبشة.

وكان عثمانيا يدعو إلى الجامعة الإسلامية كرابطة سياسية واجتماعية بين مختلف الشعوب التي تنضوي تحت لواء العثمانيين، وهذه إحدى الصفات التي جلبت له الكثير من الأعداء والعديد من الخصومات، لأن أصدقاءه الكثيرين بل إخوته كانوا يختلفون معه في هذا الاتجاه في وقت كان أعظم رجال العرب يضيقون ذرعا بأعمال الأتراك ويطالبون بالاستقلال العربي ثم بتكوين خلافة عربية.

ولكن شكيب كان أبعد نظرا منهم وأكثر تقريرا للمستقبل، فقد كان يعرف أن الأتراك يرتكبون من ضروب الظلم مع العرب ما يستوجب الثورة ويدعو إلى الانفصال، ولكنه كان يعلم أن ذلك الظلم لم يكن ينبعث إلا من رجال (الاتحاد والترقي) أي من الأتراك المستغربين بل من مهاجري التركستان الذين كانوا يريدون بعث الجامعة الطورانية رغبة في تحرير أوطانهم من الاحتلال الروسي، وإن عامة الأتراك ما يزالون متمسكين بمبدأ الوحدة الإسلامية التي خلقت لهم ماضيهم المجيد. ولذلك فالأوفق للعرب أن يغالبوا التيار ويطالبوا بالإصلاح حتى تتكون لامركزية عثمانية يحصل معها العرب على حكمهم الذاتي دون أن ينهار صرح الخلافة الذي هو أساس وحدة المسلمين وحفظ كيانهم.

وكان شكيب أكثر الناس إطلاعا على ما آلت إليه الحركة العربية من خروج عن خطتها الأولى المبنية على الإخلاص والتضحية، وأكثرهم معرفة باتصالات الكثير من رجالات العرب بفرنسا وانكلترا واستمدادهم من هذين الدولتين كل وسائل الإغراء والتشجيع على الثورة على الترك باسم الاستقلال، وقد سمعت شكيبا يتحدث في هذا الموضوع وقرأت له الكثير من رسائله ومقالاته فيه، وتتلخص كلها في أن صالح العرب هو في صالح اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم، وأن الخليفة مهما تلتقي حوله أهداف المسلمين لا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة فقط، ولكن حتى بالنسبة للأقليات المسلمة  في سائر أنحاء الدنيا، وقد أعطاه التاريخ من الاعتبار ومن الحقوق ما لا يمكن أن ينزعه منه أحد، فهو الذي له الحق وحده في الاحتجاج الرسمي على كل أذى يلحق المسلمين أو يصيب ديارهم، وأن ثورة العرب عليه لن تؤدي إلى تكوين الخلافة العربية كما يزعم البعض، وإنما تؤدي إلى تفكيك عرى وحدة المسلمين ووحدة العرب ثم استيلاء الغربيين الانكليز والفرنسيين على أوطانهم وإفساد أخلاق أهلها.

وقد دار الزمن دورته وثار العرب على العثمانيين وأعلنوا الخلافة الهاشمية، وأراقوا دماءهم في سبيل الحلفاء الذين كالوا لهم من الوعود المعسولة والأموال المنقولة ما أعمى قادتهم عن تبصر الحقيقة على وجهها، وزاد الطورانيون أيضا في غواياتهم فتم للأجنبي ما أراد، وانتهت الحرب الكبرى بنصرة الحلفاء على تركية وحليفتها ألمانيا، وكان أول ما عملته انكلترا وفرنسا أن اعتقلت الأولى جلالة الإمام حسين وطردت الثانية ابنه فيصلا من بلاد الشام ثم استولتا على الأرض العربية وانتهى الأمر بطرد الأتراك لخليفتهم وإعلان الحكم اللاديني في تركيا الفتاة.

أما رجالات العرب والأتراك، فقد دخلوا في هذه الأطوار الجديدة التي يقتضيها العهد الجديد، وقبلوا العمل في الغالب في دائرة قومية ضيقة ترضي الانكليز وإن كانت تحاربهم، ويعطف عليها الفرنسيون وإن كانت ستطردهم، وهكذا ترك مصطفى كامل وحزبه الميدان للذين يعملون باسم القومية بمعناها الغربي الجديد، وتبلورت الوطنية في العراق حول ملكها الهاشمي فيصل العظيم، واستيقظت الجزيرة العربية على صوت الوهابية ونظامها، وغطت اليمن في نومتها العميقة إلى اليوم، وسارت ليبيا والمغرب العربي والشام يكافحون المستعمر في جو ملأه الشوق إلى الحرية والاتحاد، وبقيت الشام بأجزائها الثلاثة تفكر كيف تعيد للحركة العربية روحها فتكونت اللجنة السورية الفلسطينية لتعبئة القوى العربية ومواجهة الاستعمار.

وكان شكيب زعيم هذه المنظمة يسير بها وبرجالها في الداخل والخارج لمكافحة المستعمر الفرنسي والانكليزي، ولكنه وحده الذي ما كان يحس في أعماقه إلا بأنه على ثغرة من ثغر الجهاد العربي والإسلامي، ويحرر وطنه ليكون جزءا لا يتجزأ من بلاد العرب ثم من دولة الإسلام.

الأمير شكيب أرسلان بالزي المغربي التقليدي أخذت هذه الصورة لسيادته في سنة 1350 هجرية. وهي من محفوظات الصور التاريخية للأستاذ محمد دواد بتطوان

ومن السهل أن تتصور الآن جو الآلام التي كان يعيش فيها هذا البطل الكبير، رجل كافح لتجديد الأمة الإسلامية جمعاء، يرى آماله تنهار بيد أعداء، ثم يرى زعماء المسلمين أنفسهم يقبلون أن يكونوا أداة للفرقة ينظرون إلى قضيتهم الخاصة من الزاوية التي علمهم المحتل أن ينظروا إليها، يكافحون وحدهم دون أن يفكروا في تعبئة جميع القوى المنكوبة بالاستعمار لتضرب المستعمرين ضربة الرجل الواحد، وذلك ما يجعله يقف موقف المبشر الداعية ليعيد الأمر لنصابه الطبيعي، فيتصل بكل القادة ويكاتبهم ويعمل على عقد المؤتمرات الإسلامية أو العربية، ولكن جهوده كلها لم تكن تؤدي إلا إلى اليسير من النتائج، وإن كانت تؤدي به إلى غضب المستعمرين عليه وعمله على إبقائه في عزلة عن بقية أقطاب العالم العربي.

وحينئذ تتجلى عظمة شكيب، فقد جعل من نفسه علما تتجه إليه أنظار المسلمين في كل أنحاء الأرض، لقد أصبح مكتب التنفيذ لمؤتمر إسلامي معدوم، ومكتب الاستعلام والإعلام عن كل قضية وكل بلد للعرب وللمسلمين فيها حق أو نصيب، ولكن جهاده الإسلامي العام لم ينسه أبدا وطنه الخاص الذي هو بلاد الشام بكل أجزائها، بل إنه كان يخدم سوريا الكبرى بخدمته لقضايا المسلمين، لكي يكفي أن تتوجه منه رسائل وبرقيات لدنيا المسلمين لكي تثور ضد فرنسا وبريطانيا والصهيونية، وتتوالى الاحتجاجات من كل جهة على أعمال الاستعمار والصهيونية في أراضي الشام.

اجتمعت معه ليلة في منزله بجنيف، فقرأ علي رسائل وردت إليه من الملايو والصين والهند وأفغانستان وإيران والبلاد العربية وإثيوبيا ومن إفريقيا وأمريكا، وكلها تشكو من أحوال المستعمر أو تطلب الدعاية لقضية بلادها أو تستشير الأمير فيما يجب أن تعمله إزاء بعض القضايا القائمة، وكان الأمير يعلق في حديثنا معه على كل واحدة منها ويأخذ رأينا فيها ثم يستيقظ مبكرا ليجيب عن جميعها، وكان من جملة هذه الرسائل رسالة أندونيسيا تحكمه في الخلاف القائم بين العلويين وبين غيرهم في إطلاق كلمة السيادة على الجميع، وقد كتب جوابا يندد فيه بالخلاف ويحكم بإقباره لأن الوقت لا يسمح للمسلمين أن يختلفوا في قضايا غير ذات أهمية كهذه، ورسالة من أحد التجار المسلمين في إثيوبيا يشكو من اضطهاد النجاشي للمسلمين ويقول أن النجاشي يؤثر غير المسلمين بفتح وسائل التجارة والاقتصاد في وجوههم، في هذا الوقت الذي لو بعث الله فيه نبيا لجعل معجزته المال. ورسالة من تركي يشكو فيها الكبت الديني الذي تقوم به حكومة أتاتورك، وقد تولى الأمير الدفاع عن كل هذه القضايا وغيرها، وأرسل للنجاشي عدة رسائل يعظه فيها بالتخلي عن ظلم المسلمين وكان آخر ما طالبه به إصدار إعلان رسمي بمساواة المواطنين الحبشيين جميعا في الحقوق والواجبات، ولكن طلبه لم يحظ بالقبول ولا حتى بالجواب،الأمر الذي أغضب الأمير وجعله يقف من الحبشة موقفه المعروف عند الاحتلال الإيطالي.

وغضب على الأتراك غضبة أقضت مضجع رؤسائها فبعثوا يسترضونه مع سفيرهم في سويسرا ولكنه رفض مقابلة السفير. وحينما دعا لعقد مؤتمر سلمي في أوربا عملت تركيا كل الوسائل ليدعوها للحضور في المؤتمر فرفض، وصارح مبعوثها بقوله : لقد دعاكم العرب لحضور المؤتمر الإسلامي في القدس فعرضتم الدعوة على البرلمان ثم قررتم رفضها، أتريدون أن أتيح لكم فرصة رد الدعوة مرة أخرى؟.

لم تكن تصرفات الأمير وأعماله إلا بوحي من مبادئه القومية والمالية في وقت واحد، فقد حارب فرنسا لاحتلالها بلاد الشام بكل ما استطاعه من سياسة ومن سلاح، وحينما دخلت الحكومة السورية في مفاوضة معها سنة 1936، وقف موقف المتحفظ المتحفز وكان الوفد السوري اللبناني يتردد عليه لاستشارته في بنود المعاهدة القائمة، ولكنه لم يرض عنها كل الرضا بعد توقيعها من الطرفين، الأمر الذي اضطر م. فيينو إلى توسيط أحد الساسة العرب السيد أميل الخوري لاسترضائه حتى قبل أن يتناول العشاء مع فيينو الذي قدم لسويسرا لزيارته، وقد كتب إلي الأمير بعد هذا العشاء رسالة يقول لي فيها : لقد أعلنت لفيينو مرة أخرى عن عدم رضاي عن المعاهدة السورية الفرنسية، ولكني لم أرد أن أضيع الفرصة فقلت لفيينو : يمكنكم أن تعوضوا لي بأمرين :

تأييد سوريا أمام جمعية الأمم للمحافظة على سنجق الإسكندرونة، وبإرضاء الأماني القومية للشعب المراكشي، وقد بقي فيينو فعلا متصلا بالأمير بواسطة السيد أميل الخوري سواء في قضية الإسكندرونة أو في قضية المطالب المراكشية، حتى تحولت السياسة الفرنسية إلى عداء للسوريين بعدم المصادقة على المعاهدة وللمراكشيين بعمليات القمع التي ارتكبها ضدنا سنة 1937.

فنحن نرى كيف أن الأمير لم يستنكف عن الاستعانة بالخارجية الفرنسية في دفع مطالب تركيا من جزء من الوطن السوري، وهو الذي لا يتأخر عن إبقاء وطنه كله جزءا من أجزاء الخلافة العثمانية لو ظلت موجودة، لأنه في مثل هذه الحال، لا يعتبر بلاده مستعمرة للأتراك ولا يعتبر إلا أن هناك رباطا بين دول عديدة، هو عمامة الخليفة الذي يمكن أن يعين من أي بلد إسلامي متى رضي المسلمون، أما وقد أصبحت تركيا دولة مستقلة عن هذا الاتحاد الإسلامي فليس هناك مانع من أن تعامل على أساس أنها دولة أجنبية تريد التوسع على حساب غيرها، ولكن وقع في هذا الوقت بالذات أن كتب رياض الصلح الزعيم اللبناني الكبير نداء نشرته جريدة البوبلير الاشتراكية يدعو فيه إخواننا الريفيين لعدم الثقة في الجنرال فرنكو ووعوده، وكان ذلك من رياض مجاملة للاشتراكيين الفرنسيين في الوقت الذي كانت المفاوضات جارية بين الوفد السوري واللبناني وبين فرنسا، فكتب الأمير يقول : بمجرد ما اطلعت على مقال الأخ رياض كتبت إليه ألومه على ندائه، لأنه ترضية للاشتراكيين على حساب إخواننا الريفيين، ومن المعلوم أن الحرب الإسبانية كانت ضد الجبهة الشعبية الإسبانية المتحالفة مع الجبهة الشعبية الفرنسية، وكل من الجبهتين والثائرين عليها سواء في السياسة التي اتبعت لحد تلك الساعة في المغرب الأقصى.

وحارب إيطاليا بالدعاية وبالسلاح في ليبيا وفي غيرها من الأماكن التي نكبت باستعمارها، ولكنه لم يتأخر عن مد اليد لمسوليني حينما أراد هذا الأخير أن يدشن عهدا للتقارب بين إيطاليا وبين العالم الإسلامي، ولم يكن الأمير في عمله هذا أكثر من سياسي يستعمل التاكتيك اللازم لإنجاح قضايا العرب والمسلمين المتحدة في اهتمامه وتفكيره، وقد هاجت الدعاية الانكليزية لموقف الأمير من أعمال إيطاليا، وبدأت الهيئات المصرية تتحرك باسم الدفاع عن وادي النيل من الاستعمار الإيطالي، ولكن الأمير كتب الرسائل وجند الصحف ليوجه الرأي العام العربي قبل كل شيء لمحاربة الانكليز، قائلا لهم : قبل أن تحذرونا من الخطر الانكليزي أعطونا استقلال مصر، ووجد كلامه صدى في أبناء الكنانة ردده في مقالات عديدة الكاتب الأكبر الأستاذ عباس محمود العقاد، وغيره من رجال السياسة والفكر، وانعقدت الاجتماعات المتوالية ووقعت المظاهرات، وانتهى الأمر بعقد معاهدة 1936، التي كانت في وقتها خطوة لا بأس بها بالنسبة لما تطلبه مصر من استقلال وجلاء.

وقد وجه بعض أصدقاء الأمير من الفرنسيين له عدة رسائل ينعون عليه موقفه إزاء إثيوبيا، فكتب إلى المسيو جان لونكي النائب الاشتراكي الفرنسي المعروف رسالة ذات اثنتي عشرة صفحة باللغة الفرنسية بعث لي الأمير نسخة منها للإطلاع، وقد قال له فيها : إنكم تلومون ايطاليا على الاستعمار، وماذا هو موقفكم من الاستعمار الفرنسي والانكليزي ؟ إن حفنة من الأحرار مثلكم لا تستطيع أن تغير شيئا من الاضطهاد الديني الذي تقوم به فرنسا نحو المسلمين في المغرب وفي سوريا، وانكلترا في غيرهما من البلدان، إنني لا أؤيد إيطاليا في استعمارها، ولكن إيطاليا أعلنت كثيرا من الحقوق الدينية للمسلمين في مستعمراتها الإفريقية تدشينا لعهد جديد في سياستها الاستعمارية، وقد رفض النجاشي ما طالبته به مرارا من إعلان مساواة المسلمين الأحباش بإخوانهم المسيحيين، إنني لست حبشيا، والذي يهمني هو أن يعيش المسلمون الأحباش أحرارا في شؤونهم الخاصة، ثم عليهم أن يحرروا بلادهم من الاستعمار إذا شاءوا.

ليس من شأني أن أؤيد موقف الأمير أو أنتقده، وإنما يجب أن أقول : إنه كان منسجما مع مبادئه في جميع المواقف التي اتخذها - وإن سياسته الخارجية لم يكن يمليها عليه مبدأ مثالي محض، ولكن كان يمليها عليه إيمانه بقوميته العربية وبملته الإسلامية، فالجهة التي فيها مصلحة العرب والمسلمين هي الجهة الحق التي يجب أن يناصرها، ولو كانت ضد المبادئ العامة التي يشيد الناس بذكرها في كل المناسبات.

ولكي نفهم عقلية الأمير في هذا، يجب أن نذكر على جهة المثال : قضية قبرص التي تطالب اليونان بتحريرها من السيطرة الانكليزية بينما تريد الأقلية المسلمة المقيمة بها أن تبقى مؤقتا تحت حكم الانكليز إلى أن ترجع إلى أمها تركيا، فلو كان الأمير حيا لما وقف غير موقف التأييد للأقلية المسلمة، أي لبريطانيا عدوته اللدود، ولما شغل نفسه بمبدأ تقرير المصير العزيز على دول الأمم المتحدة.

سأكون منكرا لجميل الأمير إذا أخليت حديثي عن قوميته من موقفه إزاء القضية المغربية عموما والمراكشية بالخصوص، وقد كان لحركتنا الوطنية فضل الاتصال الأول مع الأمير، حتى كان واحدا من رجالنا، وعمدة من أهم العمد التي نستند إليها في الحصول على تأييد العرب والمسلمين لقضيتنا،وبمجرد ما قامت حركة الاحتجاج المراكشية على الظهير البربري، انتقل الأمير رحمه الله إلى تطوان واتصل ببعض إخواننا الحاج عبد السلام بنونة والحاج عمر عبد الجليل وعرف معنى السياسة البربرية ووقف على أسرارها، ثم رجع إلى سويسرا حيث أعلنها حربا شعواء على الفرنسيين، ولم يزل يوالي كتاباته واتصالاته بنا وبأقطاب العالم العربي والإسلامي  وتعريفنا بهم وتقديمنا إليهم حتى أصبحت حركتنا في عداد الحركات التي يستند إليها المكافحون في المشرق والمغرب لحماية التراث العربي الإسلامي والدفاع عن وحدة أراضيه وتحريرها.

وقد أخرج الأمير من طنجة، ومنع من الدخول لمنطقة الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى كما منع من زيارة الجزائر وتونس وفرنسا نفسها منذ أن بدأ يتحدث عن المغاربة ويدافع عن حقوقهم.

وكان الأمير رحمه الله كثير الإعجاب بسير حركتنا الوطنية وتنظيمها، وكان يعلق آمالا كبيرة عليها لإذكاء الروح العربية في المغرب، وكانت صلته بي وبأصدقائي صلة الأب الحنون بأبنائه الأبرار، والأستاذ العظيم بتلامذته الأحرار.

ولا أعتقد أنه أحب رجالا كمثل ما أحب أبناء المغرب، خاصة الأخوين محمد الفاسي وأحمد بلافريج وقد سألته مرة بمحضر الشيخ مصطفى الناياتي بجنيف أيهما أحب إليه، فقال لي : كيف يخير المرء بين عينيه الاثنتين، ثم قال لي : ولا بين عينه الثالثة التي هي أنت.

وقلت له مرة : أراك تحب تخليد أصدقائك في جميع ما تكتبه، فننتهز فرصة سؤالنا عن بعض المسائل ثم تأبى إلا أن تشيد بذكرنا فيها بكل مناسبة، فابتسم، وقال لي هو ذاك، ثم عاد يبعث لي دائما ببعض الفصول التي يذكرني فيها أو ينقل عني بعض المسائل التي وجهها إلي، ويقول لي : إنك تتهمني بأني أريد أن أسجل أسماءكم، ولكن الواقع أن ما حكيته أو رويته عنك هو من صنع يدك، وكيف يمكنني أن أبخسك حقك.

كان آخر مرة اتصلت فيها بالأمير يوم كنت في طريق منفاي سنة 1937 حيث اجتمعت صدفة وبطريق السر، مع تاجر جواهر شامي على ظهر الباخرة التي كانت تنقلني من مدينة (ليبرفيل) عاصمة الجابون إلى مدينة (بورجنتيل) فعرف الشاب السوري الذي لا أذكر اسمه، قضية اعتقالي و إبعادي، ورغب مني أن أدله على خدمة يقدمها إلي، فقلت له اكتب إلى الأمير شكيب رسالة بالنيابة عني أخبره فيها خبر ما رأيته، وأعطيته عنوانه، وقد علمت بعد رجوعي أن الشاب كتب للأمير، وأن شكيبا رحمه الله نشر رسالته وأقام الدنيا العربية وأقعدها احتجاجا على سوء المعاملة التي ارتكبها الفرنسيون معي.

ولكني بالأسف، ما عدت من منفاي سنة 1946، وبدأت أفكر في الاتصال به من جديد حتى توفاه الله إليه بعد أن أقر عينيه باستقلال سوريا ولبنان وتأسيس الجامعة العربية.

لو عاش شكيب لما اعتبر مهمته قد انتهت بذلك الاستقلال القومي، ولاستمر في كفاحه يسند الجامعة العربية وقضاياها والمؤتمر الإسلامي وغايته، ولن يرضى إلا إذا استقلت كل بلدان العرب وبلدان المسلمين واتحدت فيهما القومية العربية الخاصة بالملية الإسلامية العامة.

وتلك هي رسالته للقوميين العرب، ورسالته للمسلمين جميعا.

  [دعوة الحق العدد 23 ]


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK | تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني pkk   تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي. "لماذا تعتبر تركيا محاربة تنظيم حزب العمال الكرد...