السلفية وآثارها في النهضة الإسلامية
محمد الفاسي
لما طلبت مني جمعيتكم أن أحاضركم في موضوع السلفية، رجعت بمذكرتي إلى أيام دراستي الثانوية، وقد كانت آنذاك الحركة السلفية عندنا في مرحلة الكفاح وبث الروح التجديدية والتحريرية بكل معاني التحرر، وكنا نحن تلاميذ الأقسام العالية من ثانوية مولاي إدريس ونخبة من طلبة القرويين من حاملي لواء الدعوة للإصلاح التي يتزعمها أساتذتنا وعلى رأسهم شيخ الإسلام سيدي محمد بن العربي العلوي، أطال الله عمره، وكان من حسن حظ هذه الحركة بل ومن خير مستقبل المغرب بكيفية عامة أن كان الأساتذة المشار إليهم يدرسون بالقرويين وبالثانوية، فكان ذلك من أقوى العوامل لتوحيد الاتجاه الفكري الثقافي عند شباب ذلك العصر، الذي كانت تنتظره رسالة طوقته بها ظروف بلاده، وكانت رسالة شاقة تتطلب منه الانقطاع لها والإخلاص والتفاني، وقد ساعده على تحملها ذلك الحماس الذي استطاع أن يبثه في روحه أولائك الأساتذة، وإليهم يرجع الفضل في توحيد الشباب نحو المثل العليا التي عمل لها حتى انتصرت والحمد لله.
ومن واجب أساتذة اليوم أن يحافظوا على تلك الشعلة وأن يبثوا مثل تلك الروح في نفوس طلبتهم حتى يتم الإصلاح في كل الميادين ويسود المغرب الدين الإسلامي الصحيح الذي يكفل السعادة للمتشبثين بمبادئه السامية.
وبعد، فما هي هذه الحركة السلفية؟ وما هي الدواعي التي جعلتها تنبثق في البلاد الإسلامية وقد بلغت درجة قصوى في الانحطاط؟ وما هي الأصول التي تستند عليها؟ ذلك ما أريد أن أحدثكم عنه، وبعد ذلك نرى الأثر الذي كان لهذه الحركة المباركة في الإصلاح الديني والسياسي في البلاد الإسلامية شرقا وغربا.
بعث الله تعالى النبي محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة لكافة البشر، أساسها الاعتراف بالكرامة الإنسانية مما لم يسبق له مثيل لا في الديانات ولا في الفلسفات الموضوعة، وذلك أن البشر كان قد بلغ درجة من الاستعداد الفكري تمكنه من تحمل مسؤوليته، فكان من أثر ذلك أن أسقطت الوسائط بينه وبين ربه وكان المكلف مباشرة المسؤول عن أعماله لا رقيب عليه إلا الله، وقد كان لهذه الروح السامية أثرها في ما قام به الإسلام من أعمال جليلة، وقبل كل شيء متجهة نحو العقل مركز التفكير قال تعالى في سورة العنكبوت {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يقول لهم لم ابعث بخوارق العادات وإنما جئت بنظام أبشر من اتبعه بالسعادة في الدارين وأنذر من خالفه بالخيبة وسوء المصير، ويقول سبحانه وتعالى في سورة يوسف {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} منبها عباده إلى وجوب الاعتبار والتفكير في مظاهر الكون، واستجلاء نواميسها، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}، والآيات في توجيه اهتمام الإنسان لشؤون الكون والطبيعة، مما تمتاز به الدعوة الإسلامية بذلك الطابع الذي لا زال المخصصون في الدراسات الإسلامية يكتشفون منه جوانب مجهولة إلى الآن.
وجاء الدين الإسلامي كذلك بالتنويه بالعمل وإحلاله المكانة الأولى حتى إن أكثر الآيات التي يرد فيها الكلام على الإيمان تقترن بالنص على العمل؛ من ذلك قوله تعالى في سورة مريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} ومنه ما ورد في سورة الروم: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} والعمل في القرآن يقصد به كل الفضائل الايجابية منها التي تتصل بالروح أو التي تتصل بالحياة الدينية. وفي القرآن من الحض على السعي لاكتساب الرزق واتخاذ الأسباب لذلك ما جعل المسلمين يتسارعون لترقية أساليب الزراعة والصناعات، فمنه قوله تعالى في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ومنه قوله تبارك وتعالى في سورة يس: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. ويجعل العبرة كذلك في ما يقصه على عباده من إخبار رسله وأنبيائه؛ ومن ذلك قوله تعالى في سورة سبأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}. وقوله كذلك في نفس السورة: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
ثم إن الإسلام في مخاطبته للعقل وتوجيه إلى النظر في الكون فسح المجال للبحث، فلذلك من مبادئه الحض على طلب العلم لأنه حيث أطلق العنان للعقل ليصل إلى اكتناه الطبيعة حبب إليه كذلك الإقبال على العلم والمعرفة والبحث عنهما بل جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وحث على اخذ العلم والحكمة أين ما وجدا بدون اعتبار عقيدة صاحبهما إذ الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها كما قال عليه السلام. وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال في وصف المسلمين حقا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ} وحديث اطلبوا العلم ولو في الصين مشهور يدل على هذه القيمة العظيمة التي يوليها الإسلام للعلم.
جاء الإسلام كذلك بمبدأ خلقي عظيم، وهو الصبر والثبات، وكانت هذه الفضيلة مما جعل من المسلمين الأولين الإبطال الصناديد، الذين صبروا في السراء والضراء لأن الصبر ليس فقط على المكاره ولكن الصبر كذلك صبر النفس على عدم الانقياد للشهوات والانغماس في الملذات.
ومن المميزات التي تمتاز بها الدعوة الإسلامية، حرية الفكر وعدم الانقياد إلا للحق فلا راهب يجب عليك الانقياد له والعمل برأيه حتى في شؤونك مع الله، فأنت حر في كل تصرفاتك بشرط أن لا تضر بغيرك وأن لا تخرج عن المبادئ التي اعتنقتها عن طواعية واقتناع، ولا سلطة دينية كيف ما كان أمرها تتدخل في أفكارك وعقيدتك.
والإسلام كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم دين المساواة الحقة فلا فضل لعربي على عجمي إلا بتقوى الله، والمرأة والرجل أمام الشرع لهما نفس الحقوق فالنساء شقائق الرجال في الأحكام.
والإسلام دين التسامح قال تعالى في سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ} وقال في سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ}، ويرشد نبيه عليه السلام إلى طريق الدعوة المسالمة بقوله تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ويقول تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ } إلى غير هذا من الآيات البينات الدالة على سمو هذه الدعوة.
وكما جاء الإسلام بهذه المبادئ الايجابية وغيرها من فضائل الأخلاق التي إن أردنا أن نحصيها ما وسعنا هذا الزمن، كذلك نهى عن كثير من الصفات التي تقعد بصاحبها عن بلوغ ما يريده الإسلام للإنسانية من هناء وعز وسؤدد.
فمن ذلك انه يشدد النكير على المتواكلين الذين يخلدون إلى الخمول والكسل فاهمين قوله تعالى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فهما معوجا، وقد رأى الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جماعة متسكعين بالمسجد فسألهم من أنتم؟ فقالوا: {نحن المتوكلون} فعلاهم بالدرة (وهي سوط كان يضرب به من يستحقون العقاب) وقال لهم: "بل انتم المتواكلون، لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة".
وباختصار، فإن الإسلام جاء بدعوة تكفل لمن طبقها على حقيقتها ولم يحد عن طريقتها السعادة في الدارين، فهو دين الدنيا والآخرة وقد قال عليه السلام: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" وهذا هو الدستور الذي بنيت عليه الحضارة الإسلامية، فبهرت العالم بما أنجزته في ميادين العلوم والفنون والاكتشاف والعمران وضخامة المدنية مما تعلمون تفاصيله، ولا يزال كما قلت قبل يطلع علينا العلماء بنواح برز فيها المسلمون ووصلوا إلى مكنوناتها قبل هذه المدنية الحديثة بمئات القرون.
وليس موضوعنا الكلام على ما بلغت إليه هذه الحضارة الإسلامية بفضل تعاليم الإسلام، وإنما نمهد بكل هذا للكلام على الأسباب التي أدت بالمسلمين إلى الانحطاط والجمود وعدم مسايرة التقدم، بعد أن كانوا قادة الدنيا، وهنا أريد أن انقل لكم نصا للعالم جبون الانجليزي، من رجال القرن الثامن عشر، في معرض كلامه على اعتناء المسلمين بالعلم في الشرق والغرب: "إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، انفق وزير واحد لأحد السلاطين هو نظام الملك مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد، وجعل لها من الريع ما يصرف في شؤونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان عدد طلبتها ستة آلاف فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن ابن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا ينقدون رواتب وافرة".
وقصة العلم عند المسلمين وما حققوا فيه من قضايا في كل أنواعه العقلية والنظرية والتجريبية قصة طويلة تملأ النفس عزة وفخارا وما توصل المسلمون فيها إلى ما توصلوا إليه إلا لأنهم كانوا يعملون لدنياهم كأنهم خالدون فوق الأرض عملا بتعاليم دينهم وفي الوقت نفسه يتقون الله ويخشونه ويتحلون بأسمى الصفات الخلقية ويعملون لآخرتهم كأن الموت مداهمهم في كل حين.
وعهدنا بالديانات لا تدعو لشؤون الدنيا والأرض وإنما تحض على شؤون الآخرة والسماء، أما الإسلام فقد جمعت دعوته بين الحسنيين وذلك سر انتشاره وسر بنائه في عصر الظلمات الغربية لتلك المدنية المشرقة الإسلامية.
إلا أن هذا الجسم الذي كان قويا نشيطا بعد أن بلغ ذروة قوته ونشاطه، نراه يقف في نموه ويعقب ذلك الوقوف وتقهقر كاد يؤدي به إلى الفناء لولا أن تداركه الله بمن بحث علله وحاول إزاحتها، وأننا لنستغرب كثيرا من هذا الذي طرأ على جسم الحضارة الإسلامية، لأن حضارات أخرى قبلها اعتراها مثل هذا الانحطاط ولأكنه أدى بها إلى الفناء فزالت وخلفتها حضارات غيرها كالحضارة المصرية القديمة وحضارات ما بين النهرين الأكاديمية والأشورية والبابلية والحضارات الفينيقية واليونانية والرومانية وغيرها، اما الحضارة الإسلامية فقد استطاعة أن تقوم من كبوتها وتستدرج بعض مجدها.
ولنعد الآن للكلام على العلل التي اعترت جسم الحضارة الإسلامية حتى سببت لها ذلك الخمود الطويل الشبيه بالموت، أولى تلك العلل وقد ظهرت في فجر الإسلام إلا أن عناصر الخير كانت أقوى فلم تؤثر كبير أثر على مجموع الجسم، هذه العلة الأولى هي التفرقة التي حصلت في صفوف المسلمين وكانت في أصلها خلافا سياسيا اصطبغ كما هو الشأن في كل ما يمس الإسلام بصبغة دينية وعندما نحلل صفات المسلمين أيام انحطاطهم نرى أن جذورها ترجع إلى هذه الخلافات وما تسرب إلى الإسلام بسببها من ضلالات وبدع روجها أعداء الإسلام من يهود ومجوس ونصارى وملحدين، إذ كان كل فريق يحاول الانتصار على الفريق الآخر بالاستناد إلى مراجع دينية من آيات قرآنية يحولونها عن مواضعها ويؤولونها تأويلات توافق إغراضهم وشهواتهم لأنهم لا يستطيعون وضع آيات قرآنية، لان الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم. أما حديث الرسول عليه السلام فإنهم لم يكتفوا بتوجيهه لصالح دعوتهم وضلالاتهم بل عمدوا إلى الوضع والكذب رغم ما ورد من الوعيد في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، وهكذا شوهوا محاسن الإسلام وعدلوا به عن طريقه السوي فتفرقت الكلمة وضعف بذلك شأن المسلمين مما جعل أعداءهم يتألبون عليهم، وهذه العلة الثانية من العلل التي سببت انحطاط الحضارة الإسلامية، فإن تلك الخلافات مع عوامل أخرى تاريخية ليس هذا محل تفصيلها، طمعت المسيحيين في بلاد المسلمين فكانت تلك الحروب الصليبية. وهي أن أذكت من ناحية الروح الدينية في الجماهير الشعبية فإنها من جهة أخرى كانت سببا في إقبال العامة على الالتجاء إلى خوارق العادة من الأدعية والتوسل والتواكل للخلاص من المصائب التي انكبت على بلاد المسلمين، ومثل هذا وقع في الجناح الغربي للبلاد الإسلامية حيث ضعف السلطة في الأندلس أيام ملوك الطوائف شجع الإسبان على استرجاع سلطتهم إلا أن المرابطين أخروا هذه النهاية إلى أربعة قرون بعد ذلك، وما نجحوا في المحافظة بالأندلس للإسلام إلا لأن دعوتهم كانت تشبه من عدة نواحي الإسلام في أول ظهوره وقد أصابهم ما أصاب غيرهم عندما تخلوا عن تلك الأخلاق الإسلامية السامية.
وقد زاد الطين بلا في البلاد المشرقية هجوم قبائل التتر المتهجمة على البلاد الإسلامية وعبثهم فيها وتقتيلهم للبرآء من النساء والأطفال وتخريبهم للمدن وإحراقهم لخزانات الكتب، فنتج عن كل هذه العوامل انحطاط في المدارك وفشو الجهل بين طبقات الشعب فاستغل المشعوذون والمضللون هذه الظروف للتحكم في نفوس العامة وانتشرت العقائد الباطلة البعيدة عن روح الإسلام وتمكنت عوائد لا تمت إلى الدين الحنيف بصلة وأخذ العالم الإسلامي يرجع إلى الوراء وصار ويعتقدون أن هذا الدين العظيم الذي بلغ بمعتنقيه أن هذا الدين العظيم الذي بلغ بمعتنقيه أيام كانوا مسلمين حقا ذروة المجد والتقدم هو ما يرون عليه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد نتج عن هذه الحالة السيئة في القرنين السادس والسابع أن أخذ بعض الملهمين من علماء الإسلام يفكرون في أسباب هذا الانحطاط وهذه الحالة التي صارت عليها البلاد الإسلامية، وأن الذي توفق إلى اكتشاف السر وتشخيص العلة هو الإمام ابن تيمية رحمه الله.
وقد توفق كذلك إلى وصف الدواء إلا أن أولئك المستغلين لغباوة العامة وجهلهم كانوا لا يزالون هم الأقوياء فلم يستطع النجاح في علاج الجسم الإسلامي مما حل به ولكنه وضع الأسس للمصلحين من بعده الذين استطاعوا أن يخرجوا أفكاره وأقواله إلى حيز الوجود، وهذا أصل الحركة السلفية. لذلك ليمكننا أن نعرفها على حقيقتها ينبغي لنا أن نقف ولو وقفة صغيرة عند حياة هذا الإمام الجليل لنرى آراءه وأفكاره وهي التي سادت بعد أربعمائة سنة أولا في الجزيرة العربية عندما قام محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية التي اعتنقها احد أمراء نجد محمد بن سعود ونتجت عنها الدولة الوهابية السعودية وثانيا عندما قام مائة سنة بعد ذلك جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بالدعوة إلى الإصلاح وكانت أسس هذه الدعوة أفكار ابن تيمية ونظرياته الفلسفية.
ولد تقي الدين أبو العباس احمد بن تيمية الحنبلي بحران قريبا من دمشق سنة 661 (1263م) وانتقلت عائلته فرارا من التتر إلى دمشق وبها درس على علمائها وظهرت نجابته وكان من بيت علم، كان والده أستاذ الفقه الحنبلي بدمشق وقد خلفه عند مماته وسنه لم تتجاوز العشرين سنة، وأخذ ينمي معارفه في كل أبواب المعرفة حتى تضلع في علوم التفسير والحديث والفقه والكلام والفلسفة ولكنه أقبل بكليته على تدبر القرآن ومقارنة ما يوحى به وما عليه المسلمون فتوصل إلى أن أصل كل المصائب الابتعاد عن أوامره ونواهيه وأخذ يدرس الحديث بهذه الروح واستعمل في ذلك حرية التفكير التي اكتسبها بتدبر القرآن فبلغ مكانة عالية في معرفة صحيح الحديث من ضعيفه ولم يستثن في نقده كتابا من كتب الحديث، وخرج من كل هذه الدراسات بفكرة محاربة البدع وتصفية الإسلام من الشوائب التي أدخلت عليه ولا يتأتى ذلك إلا بالرجوع لما كان عليه السلف الصالح ورأى أن الحياة التي كان يستمد منها الإسلام
قوته وحيويته ووسائل تجدده ومسايرته للتطور لأن التقليد كان يمنع من البحث عن حلول جديدة تقتبس من الكتاب والسنة والأصول الأخرى للاجتهاد لما يتجدد من مسائل في الفقه وفي الحياة الاجتماعية بكيفية عامة زد على ذلك أن التأثيرات الأجنبية والتأويلات التي تتراكم مع الأجيال على مجموع المعارف الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام وتصوف لا يمكن مراجعتها والنظر فيها من جديد إذا كان الاجتهاد محجرا، لذلك كان من المبادئ الأساسية التي دعا إليها ابن تيمية محاربه التقليد والتعويل قبل كل شيء على الكتاب والسنة ومحاربة البدع والقضاء عليها، وقد كان لمذهب الإمام احمد ابن حنبل رضي الله عنه يمتاز بتمسكه بنصوص الشريعة الأولية التي لم تدخلها التأثيرات الفلسفية والمجادلات المنطقية من غيره، فلذلك أكب على دراسة آثار علماء المذهب الحنبلي ممن سبقه وتمييز غثها من سمينها إذ كان تسرب إليها وطرأ عليها مثل ما تسرب إلى المذاهب الأخرى.
ثم بعد كل هذا بدا ينشر أفكاره بواسطة الدرس والوعظ والتأليف فقام ضده جماعة ممن يرون عن حسن نية أو لحاجة في نفس يعقوب أن الإسلام هو ما هم عليه من الالتجاء إلى التوسل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات وزيارة المقابر والاستشفاع بأصحابها إلى غير ذلك من البدع التي ناهضها ابن تيمية، وقد لاقى في سبيل دعوته الإصلاحية مشاق وعذابا فسجن مرارا بالقاهرة ودمشق، وفي المرة الأخيرة قضي بالسجن القلعة من العاصمة الأموية أكثر من سنتين حتى توفي سجينا بها سنة 728 (1328) وقد خرج في جنازته أكثر من مائتي ألف من سكان دمشق من الرجال وخمسة عشر ألف من النساء.
ومن تلاميذ ابن تيمية الكبار عماد الدين بن كثير الشافعي صاحب التفسير السلفي المشهور وقد توفي سنة 774، وقد كان له ولابن القيم ولتلاميذ ابن تيمية الآخرين الفضل في تنبيه علماء الإسلام إلى الدعوة الإصلاحية إلي قام بها ابن تيمية وان هذه وإن لم يكن لها أثر عملي في النهوض بالشعوب الإسلامية في تلك الحقبة التي بدأت فيها النهضة الأولية فإنها كمنار يهتدى به من ينشدون الإصلاح حتى قيض الله لها زعماء النهضة الإسلامية في القرن الماضي وفي هذا القرن.
وينبغي لنا أن نتعرض لشخصية أندلسية من رجال الإصلاح وهو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي المتوفى سنة 790، وأن نبوغ هذا المصلح الكبير في البلاد المغربية وفي العصر الذي كانت السلطة الإسلامية في الأندلس على أبواب الانهيار جعلت الأجيال التي جاءت بعده تغمطه حقه وإلا فإن ما وضعه من أسس لمحاربه البدع وتحليل مظاهرها ومفاسدها في مؤلفاته الجليلة خصوصا كتاب الإعتصام الذي نشره الإمام رشيد رضا سنة 1914 كان لها أثر كبير على رجال الإصلاح في أوائل هذا القرن، وقد قال عنه رشيد رضا في فصل التعريف بكتاب الإعتصام الذي صدر به طبعته: "ولولا أن هذا الكتاب في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة وإصلاح شؤون الأخلاق والإجتماع ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب مرافقات الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضا، من أعظم المجددين في الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمان ابن خلدون كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله ولم تنتفع الأمة كما كان يجب بعلمه".
وبقيت هذه النظريات الإصلاحية خامدة تنطوي عليها دفات الكتب ومن حين لآخر يقوم أحد العلماء في بلد من بلاد الإسلام بالدعوة لإحياء السنة ومحاربة البدعة من ذلك ما تزعمه أحد ملوك الأسرة العلوية وهو سيدي محمد بن عبد الله الذي كان من العلماء السلفيين حتى أنه كان يوقع تأليفه هكذا: "محمد بن عبد الله المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا"، وقال في شرح هذا بعد كلام: "فطريق الحنابلة في الإعتقاد سهلة المرام منزهة عن التخيلات والأوهام موافقة لإعتقاد الأئمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام" وقد وضع رسالة وجهها للعمال ضمنها نصائح ثمينة وقد بدأها بالتشبيه إلى ما شاع بين العامة "من عموم الجهل بالتوحيد وأصول الشريعة وفروعها حتى ارتكبوا أمورا تقارب الكفر أو هي الكفر بعينه". كما قال، ولكن نداءه لم يكن له أثر، ثم أن كل من يحاول من العلماء الرجوع بالإسلام إلى صفائه الأول تقوم عليه قيامة الجامدين والقبوريين. فلا يكون لندائه أثر ويبقى التقهقر والإنحطاط مستمرين إلى أن اكتسحت دول الغرب البلاد الإسلامية واستولت عليها باسم نشر المدنية بها وإثبات النظم العصرية التي تساعد على الترقي في مستوى الأمة إلى غير ذلك من تلك الأقاويل التي كان يتبجح بها دعاة التوسع الأوروبي والاستيلاء على قارتي آسيا وإفريقيا.
وقد أشرنا من قبل إلى الإنتفاضة التي حصلت في بلاد نجد على يد المصلح محمد بن عبد الوهاب في أواسط القرن الثاني عشر، ولكن هذه الثورة الفكرية التي صاحبها تأسيس دولة مستقلة وسط الجزيرة لم يكن تأثيرها من الناحية العملية عاما وإنما اقتصر على الناحية التي ظهر فيها ابن عبد الوهاب أما من الناحية الفكرية فقد كان لها صدى عميق في نفوس كثير من العلماء في مختلف البلاد الإسلامية ويمكن أن تعتبر الأصل الثاني للحركة السلفية الحديثة التي كتب لها النصر والتي يرجع إليها الفضل في تصفية العقيدة الإسلامية وبالتالي في محاربة الجامدين الذين كان يعول عليهم الإستعمار في تثبيت إقدامه بالبلاد التي منيت به.
لذلك يجب أن نقول كلمة عن الوهابية وقد ألف فيها الغربيون مآت التآليف وكانت الشغل الشاغل للساسة الإستعماريين في كل البلاد الغربية وبالخصوص عند الفرنسيين والانكليز والهولانديين.
ولد محمد بن عبد الوهاب في وسط نجد بمدينة العيينة سنة 1115 (1703) في عائلة علماء وفقهاء حنابلة وكان جده مفتي الديار النجدية ووالده قاضي العيينة وبدأ دراسته ببلده ثم قصد مكة والمدينة للتوسع في دراسة العلوم الإسلامية وملاقاة علماء الأقطار الإسلامية الذين يردون على الحجاز، لأداء فريضة الحج، وقد كان لشيخه محمد حياة السندي أثر على توجيهه وقد كان من قبل لأحد شيوخه النجديين الحنابلة ممن يرون ضرورة فتح باب الاجتهاد تأثير كذلك من هذا القبيل على تكوينه، وبعد ما أتم دراسته رجع لنجد وأخذ ينشر العلم ويدعو إلى الإصلاح ولكنه وجد معارضة حتى من ذويه ووالده وأخيه وقد كان يقيم إذ ذاك مع عائلته بالحريملة فلما توفي والده رجع إلى بلده العيينة ولكن نفس المعارضة منعته من متابعة دعوته لأن الشيوخ الجامدين تألبوا عليه فاضطر للخروج من بلده وقصد إحدى الإمارات الصغيرة البدوية ومركزها الدرعية في قبيلة عنيزة وكان أميرها إذ ذاك محمد بن سعود فقاتله أولا ببرود ولكن تحت تأثير اثنين من إخوته استمع لما يدعوا إليه واقتنع به خصوصا بعد أن كان أخواه بشرا بهذا الإصلاح السيدة حرم الأمير، فتم بذلك لمحمد بن عبد الوهاب ما أراد وتعاهد مع الأمير على نصرة الإسلام الصحيح والاستماتة في سبيل مبادئها، وهكذا بدأت من جهة الملحمة الوهابية الكبرى التي توجت بالنهاية باستيلاء السعوديين على كل الأقطار النجدية والحجازية وتأسيس مملكتهم ومن جهة أخرى الحركة الفكرية الجبارة التي عمت كل البلاد الإسلامية وتزعمت محاربة البدع والرجوع بالإسلام إلى صفائه الأول، كل ذلك لتحرير البلاد الإسلامية من الاستعمار وإحياء مجد الإسلام، وقد ألف محمد بن عبد الوهاب عدة كتب كان لها أثر كبير في أوائل هذا القرن واعتمد عليها المصلحون.
وقد نبهت كذلك هذه الحركة إلى كتب ابن تيمية ومدرسته فوقع عليها الإقبال وأخذت فكرة الإصلاح تختمر وتكسب لها المؤيدين والمناصرين وقدر لمحمد بن عبد الوهاب أن لا يفارق الدنيا حتى يرى مبادئه تعم تقريبا الجزيرة العربية بما فتحه من أقطارها محمد بن سعود وابنه عبد العزيز من بعده، وقد توفي محمد بن عبد الوهاب سنة 1206 (1792) ومن آثار دعوته أن وقع لها صدى بالمغرب في وقت كانت الأفكار الجامدة تسود كان التقليد ضاربا إطنابه والطرق لها صولة وأما العامة فقد كانت في بحر مظلم من الجهل والإعتقادات الفاسدة لأن الحركة التي قام بها السلطان سيدي محمد بن عبد الله لم يبق لها أثر كما قدمنا، وكان سلطان المغرب المولى سليمان من العلماء المتضلعين في العلوم الإسلامية وكان سنيا مصلحا رأى ما عليه أمته من إتباع الضالين المضلين من رجال الطرق المشعوذين وما نتج عن ذلك من ابتعاد عن روح الدين الحنيف فقام يدعو إلى الإصلاح وان خطبته الشهيرة التي وجهها لكل نواحي المغرب لتلقى أيام الجمع بكل المساجد من النصوص الأساسية للحركة السلفية بالمغرب وهي مطبوعة وإن لم يترتب عنها في حينها الأثر الذي توخاها وبقيت مثل ما أشرنا إليه سابقا نسيا منسيا وكتابا مطويا فإنها كذلك من العوامل المهمة التي أذكت روح الإصلاح في من قبضهم الله للقيام بهذه الحركة.
وقد قال عن هذه الخطبة الناصري في استقصائه "تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة وبين فيها بعض آداب زيارة الأولياء وحذر من تغالي العوام في ذلك وأغلظ فيها مبالغة في النصح للمسلمين جزاه الله خيرا".
ومن فصول هذه الخطبة قوله "اتركوا عنكم البدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون وافترقوا اوزاعا وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا وتمسوا فقروا وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا، {قل هل أنبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} وكل ذلك بدعة شنيعة وفعلة فظيعة وسبة وضيعة وسنة مخالفة لإحكام الشريعة وتلبيس وظلال وتدليس شيطاني وخيال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتا وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا وتصدى له أهل البدع من عيساوة وجيلالة وغيرهم من ذوي البدع والضلالة والحماقة والجهالة، وصاروا يترقبون للهوهم الساعات وتتزاحم على حبال الشياطين وعصيه منه الجماعات، وكل ذلك حرام ممنوع والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.
"وفي نفس هذا الوقت قام احد علماء اليمن محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 (1832) بدعوة إصلاحية من هذا القبيل وألف في ذلك رسالة الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد وهي على إختصارها من أهم المراجع لمحاربة البدع والضلالة وهو يرد بالحجج الساطعة من الكتاب والسنة على من يسميهم القبوريين ويجادلهم بالبراهين الدامغة من ذلك قوله وهو يخاطب من يدافع عن الجامديين: (فإن قلت) أن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع والخير والشر بيده وإن استغاثوا بالأموات قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه (قلت): وهكذا كانت الجاهلية فأنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز ثم قال: "أين من يعقل معنى: أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فلا تدعوا مع الله أحدا، له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء وقد اخبرنا سبحانه أن الدعاء في محكم كتابه بقوله تعالى: {ادعوني استجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين.} وقال: "وكذلك النحر للأموات عبادة لهم والندر لهم بجزء من المال عبادة لهم والتعظيم عبادة لهم". من مسائل الدين يقول عالم من علماء المسلمين ولا تقبل قول غيره ولا ترضى به .. فانظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين واقتدوا بهم في مسائل الدين ورفضوا الباقين". وبالاختصار فان رسالة الدر النضيد من أمتع ما كتب في موضوع محاربة البدع وقد كان لها أثر على كل من تصدوا للإصلاح في السنين الثلاثين الأخيرة.
وظهر علماء آخرون يدعون للإصلاح في مختلف البلاد الإسلامية ولكن هذه المحاولات كلها لم تستطع أن تفرض نفسها وإن تكسب المؤمنين بها المناضلين عنها في كل البلاد من يقضون على البدعة فعلا ويصلحون أحوال المسلمين ويسيرون بهم إلى الإمام.
وبقيت الحال هكذا بين مد وجزر والإستعمار يمد أطنابه في البلاد الإسلامية وقد جعل من المبادئ التي يعتمد عليها مساندة الجامدين الذين يستغلون بساطة الشعب حتى يبقى في سباته ولا يحاول النهوض للمطالبة بحقوقه ولا يحس بنقص فيسعى لتكميله وإذا رفع أحد صوته بالتنديد بما عليه الإسلام تصدى له إجراء الاستعمار من مشايخ الضلال وقاوموه وأغروا به المستعمر فيضطهد ويقضى على حركته، فزاد الأمر تفاحشا وتجددت دولة البدعة والجهالة وضاق المسلمون درعا بهذه الحالة فبدأ التذمر في كل البلاد الإسلامية وتبلور كل ذلك في شخصية المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني هذه الشخصية الفذة التي قيضها الله للإسلام لبعث روح النهضة والتي يرجع إليها الفضل في تعميم الدعوة إلى الإصلاح ونجاحها في نفوس القادة من رجال العلم والسياسة في كافة الأقطار الإسلامية، وأن الدعوة الإصلاحية التي تزعمها السيد جمال الدين الأفغاني لم تنحصر في ناحية محاربة البدع وإن كان أعظم تلامذته الشيخ محمد عبده ركزها في هذه الناحية لما تحققه من أن أصل كل المصائب التي اعترت كيان الدولة الإسلامية وشعوبها إنما أصلها تشويه الدين الإسلامي مما أدى إلى الانهيار ولا يمكن انتشال المسلمين من هذه الحالة إلا باطلاعهم على صفاء العقيدة وتعليمهم مبادئها السامية وكل هذا لا يتأتى إلا بالقضاء على شعوذة المشعوذين وضلالات مشاييخ الطرق الذين حادوا عن الروح الصوفية الحقة التي لم تتلبس بهذه الخرافات والضلالات.
وأيا ما كان الأمر فان دعوة السيد جمال الدين الأفغاني هي المرحلة الأخيرة التي وصلت إليها حركة الإصلاح الذي بدأه الإمام ابن تيمية، ولا نستطيع أن نلم في هذا الحديث بحياة السيد جمال الدين لأنها مليئة بالأحداث والتطورات والانتقالات بين آسيا وأوروبا وإفريقيا بل وحتى أمريكا فقد كان حركة لا تنقطع ونشاطا لا يعرف الوهن وقد لاقى كذلك في سبيل دعوته ما يلاقيه كل المصلحين من اضطهاد وسجن ونفي إلى أن توفي رحمه الله باسطنبول في مثل هذا الشهر (مارس) من سنة 1897 ولم يخلف تأليف لأن عمله كان كله منصرفا بالكتابة إلى الجرائد وبتكوين التلاميذ الذين قاموا بنشر دعوته أيام حياته وبعد مماته ولا يعرف له إلا كتابه ضد الماديين وقد وضعه بالفارسية وترجم إلى لغة الاردو وهي لغة الباكستان اليوم وإلى اللغة العربية على يد الشيخ محمد عبده وقد سماه "رسالة في إبطال مذاهب الدهريين وبيان مفاسدهم وإثبات أن الدين أساس المدنية والكفر فساد العمران"، وقد انتشرت هذه الرسالة في العالم الإسلامي بحيث لم تكن تخلو منها خزانة مثقف منذ ظهرت في الطبعة الأولى سنة 1303 وفي الطبعة الثانية سنة 1312.
اما تلميذه الشيخ الإمام محمد عبده فإليه يرجع الفضل، مباشرة في هذه اليقظة العامة التي شملت كل البلاد الإسلامية والتي عمل على نشرها تلامذته وهم كثيرون وقد برزوا في كل الميادين العلمية والأدبية والسياسية وعلى رأسهم من حيث التخصص للدعوة الإصلاحية وحاربة الاستعمار الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله. الذي كان ارتباطي الروحي بهذه المدرسة الإصلاحية بواسطته.
والكلام على الشيخ محمد عبده كذلك يتطلب وقتا طويلا لأن دعوته توجهت إلى نواحي كثيرة من الإصلاح الديني كما قدمنا فإنه شمل من أجل ذلك النواحي الأخرى الاجتماعية والسياسية، وقد ولد رحمه الله بصعيد مصر سنة 1265 (1849) ودرس بطنطا ثم انتقل إلى الأزهر وقضى به بضعة سنين في التحصيل وأثناء ذلك حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني سنة 1289 (1872) فاتصل به الطالب الأزهري وقد كان إذاك على أبواب التخرج وقد حصل علما كثيرا في مختلف العلوم الإسلامية فوجد عنده ضالته لأنه فتح له آفاقا جديدة بما كان له من الاطلاع على العلوم المصرية الحديثة وبما كان له من المعرفة لشؤون البلاد الغربية ولحضارتها فكان من أثر جمال الدين على تكوينه أنه مكنه من طريقة جديدة لتفهم فلسفة الإسلام فأقبل على دراسة الحضارة الإسلامية وأخذت تتكون عنده نظرياته في الإصلاح وقد كان عين أستاذا بدار العلوم عند أول تأسيسها فأخذ ببث أفكاره بين تلاميذته وفي أثناء دراسته أولع بفلسفة ابن خلدون فكانت المقدمة من الكتب التي طبعت كذلك الاتجاه الإصلاحي عند الشيخ محمد عبده، وأخذ ينشر آراءه في الصحف فتنبه إليه الجامدون وبدأت الاضطهادات التي لابد منها لكل مصلح وكأنها من شروط نجاح كل دعوة إلى الإصلاح لأنها تكون بمثابة الإعلان عن الدعوة ولأنها تحمل في طياتها الإعتراف بأن هذا الذي يضطهد في سبيل عقيدته ما تحمل المحن والتضحيات إلا لأنه محق ولأنه تجرد عن الأغراض، فعزل محمد عبده من وظيفته، وما عتم بعد ذلك أن نفي بعد ثورة عرابي باشا إلى بيروت سنة 1882.
وقد كان لهذا النفي الأثر النهائي على تكوين أسس الدعوة الإصلاحية التي تزعمها من ذلك الحين الشيخ محمد عبده، فقد أخذ يلقي دروسا في حقيقة التوحيد لأنه رأى أن مظاهر الشرك هي أصل البلاء وبدأت دعوته تصطبغ بهذه الصبغة الدينية، وهذه الدروس هي أصل رسالة التوحيد الشهيرة التي ترجمت إلى عدة لغات وصارت في جل البلاد الإسلامية تعتبر الكتاب الأساسي لدراسة التوحيد، ثم في سنة 1883 التحق بشيخه الأفغاني بباريس وهناك أسسا جريدة "العروة الوثقى" للدعوة إلى جمع كلمة المسلمين والتحرر من القيود والرجوع إلى صفاء الإسلام ومحاربة الغزو الأوروبي المادي والمعنوي، وهذه الجريدة رغم كونها لم يصدر منها إلا ثمانية عشر عددا فان أثرها على النهضة الإسلامية كان عظيما وقد استطاع أن يستفيد منها كذلك زعماء الإصلاح في أوائل هذا القرن لأن هذه الإعداد جمعت في كتاب على حدة وصار هذا المؤلف من الكتب الأساسية التي لا تخلو منها كذلك خزانة.
ورجع بعد ذلك محمد عبده إلى بيروت، ثم في سنة 1889 رجع إلى القاهرة وقد ذاع صيته وانتشر ومن ذلك الوقت وهو يحمل مسؤولية الدعوة الإصلاحية بشتى الوسائل من درس وتأليف وكتابة في الصحف وقد اتصل به في هذه الأثناء تلميذه رشيد رضا وهو الذي انتشرت دعوته على يده بالمجلة العظيمة "المنار" التي حملت الدعوة الإصلاحية إلى كافة البلاد الإسلامية وكان ينشر في هذه المجلة تفسير شيخه المشهور بتفسير المنار وقد بلغ قبل وفاته مكانة كبيرة في البلاد المصرية وعند كافة المسلمين وقد عين في آخر حياته المفتي الأكبر للديار المصرية وبقي في هذا المنصب الجليل إلى أن توفي سنة 1323 (1905) وقد خلفه في الدعوة الإصلاحية تلميذه الشيخ رشيد رضا، ولا نطيل بالكلام عن حياة هذا المصلح الكبير لأنه بالنسبة للكثيرين يعتبر من المعاصرين وقد توفي رحمه الله سنة 1935، أما أثره فقد كان عظيما لأنه وسع دائرة الإصلاح إلى كل النواحي الاجتماعية في كل البلاد الإسلامية وساعده على ذلك تلك الأداة الفعالة مجلة المنار التي كانت تقض مضاجع المستعمرين لأنها كانت تتعرض لكل القضايا الوطنية للبلاد الإسلامية والمغرب لن ينسى لها تلك الحملة الموفقة التي شنتها على الظهير البربري مع مساندتها لحركتنا الوطنية الناشئة أذاك.
كان من أثر الدعوة الإصلاحية التي تزعمها الشيخ الإمام وخصوصا محاربة البدع والطوائف الضالة أن اقتنع بها السلطان مولاي عبد الحفيظ وكان من رجال العلم وقد ألف كتابا في الرد على التجانية نشره بفاس كما كان شباب المغرب منذ أيام مولاي عبد العزيز يهتم بكل ما يجري في الشرق ويطالع الجرائد والمجلات التي كانت ترد على المغرب فتكونت نواة طلبة القرويين اقتنعت بضرورة الإصلاح الديني وعلى اثر ذلك زار المغرب احد العلماء السلفيين السيد عبد الله السنوسي وحاول بث أفكاره الإصلاحية كذلك، كما أن الشيخ المحدث الكبير أبا شعيب الدكالي من رجال السنة المناضلين عنها وقد قضى مدة بمكة ولما رجع للمغرب اخذ يلقي دروسه في الحديث وكان له أثر في الناحية.
وتبلورت كل هذه المؤثرات في شخصية مصلح المغرب الكبير شيخنا سيدي محمد بن العربي العلوي، وهو كالسيد جمال الدين الأفغاني لا يكتب المؤلفات وإنما كون جماعة من الشباب من ذوي الثقافة الإسلامية المحضة ومن الذين قدر لهم في أول الحماية أن يجمعوا بين الثقافتين حتى أن أكثر القادة بالمغرب في الناحية الفكرية من تلامذته.
وأن تاريخ الحركة الوطنية بل الفكرة الوطنية نفسها يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين كشيخنا السيد عبد السلام السرغيني رحمه الله، وكثيرا ممن تتلمذوا لإبن العربي كانوا أيضا في نفس الوقت تلاميذ للسيد عبد السلام السرغيني.
وقد لقت هذه الحركة أيضا مقاومة من طرف القبوريين وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح وبدأت آثار هذه الدعوة تظهر في ما يكتبه الشباب من مقالات في الصحف خصوصا في صحافة الجزائر وقد تأسست فيها جمعية سلفية أسسها المصلح الجزائري الكبير عبد الحميد باديس رحمه الله وهي جمعية العلماء التي كان لها أكبر الفضل في إحياء الفكرة الوطنية الإسلامية في القطر الشقيق وقل من شباب ذلك العصر من لم يشارك بقلمه في هذه الحملة التي كانت هي المظهر الأول للوطنية ببلادنا.
حتى أن أول مقالة كتبتها بالفرنسية وأنا لا أزال تلميذ بثانوية مولاي إدريس كانت حول عيساوي ونشرتها في جريدة تصدر بباريس بينت فيها أن الضلالات التي عليها هذه الطائفة لا تمت للإسلام بصلة بل لا علاقة لها مطلقا بتعاليم الشيخ محمد بن عيسى وأوردت ترجمته بهذه المناسبة. ونشرت في هذه المدة الكتب والرسائل الصغيرة في الدعوة إلى الإصلاح ومحاربة البدعة في الموضوع كان ألقاها في غفلة من عين السياسة الأهلية الأستاذ عبد السلام السرغيني رحمه الله.
وتسربت الفكرة الإصلاحية كذلك إلى القصر بواسطة السيد المعمري وهو صديق لإبن العربي ومقتنع بالفكرة السلفية وقد كان أستاذا لصاحب الجلالة محمد الخامس نصره الله، فشب ملكنا على هذه الروح الوثابة نحو الإصلاح والتحرر التي كانت ميزة حركتنا الوطنية، فكان تكون المجالس على العرش وتكون الشباب الذين اضطلعوا بالدعوة الفكرية الوطنية واحدا يستقي من نفس المنابع الطاهرة: القرآن وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح.
وإن هذه الحقبة من كفاحنا حيث كانت كل الجهود متجهة نحو محاربة البدع والعوائد الفاسدة وذم التقليد الممقوت تستحق دراسة خاصة لأنها هي التي طبعت فكريا الحركة الإستقلالية التي نشأت في هذا الوسط الإصلاحي وترعرعت فيه وجعلت مبادئها مستمدة من مبادئه.
وقد كان النصر المبين الذي حصلنا عليه في الميدان السياسي بتحقيق استقلال البلاد نصرا كذلك في نفس الوقت للفكرة السلفية التي كان يقاومها المستعمرون وأذنابهم من منتحلي التصوف المزيف الكاذب والتصوف الحقيقي بريء منهم.
هذه أيها السادة نظرة عجلى على أصول هذه الحركة المباركة ودواعيها وأثرها في إيقاض الوعي القومي في نفوس المسلمين في المشرق والمغرب وعسى أن ترعوا هذه الأمانة التي أداها لكم المخلصون من أبناء المغرب فتتعهدوها وتعملوا على الاستفادة منها إذ لم تكن تلك الحركة إلا مقدمة لبناء مجد جديد للمغرب وللإسلام وعليكم انتم شباب اليوم ورجال الغد المسؤولية في بلوغ بهذا الوطن العزيز إلى ما ننشده له جميعا من عز ورفاهية وسعادة والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق