الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK | تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني pkk

 تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي.


"لماذا تعتبر تركيا محاربة تنظيم حزب العمال الكردستاني #PKK مسألة أمن قومي.

كيف تأسس حزب العمال الكردستاني pkk؟ ولماذا أنشأ التنظيم عدة تنظيمات أخرى بأسماء مختلفه في عدة دول في المنطقه؟ وما قصة الصراع بين تركيا والتنظيم المسلح المستمر منذ عقود؟ وما علاقة التنظيم بما يعرف حاليا ب " تنظيم قسد " في سوريا؟ ولماذا تعتبر تركيا تنظيم " قسد" على إنه إمتداد لحزب العمال الكردستاني pkk؟

إليكم سلسله حقائق ومعلومات قد تقرأونها لأول مره باللغه العربيه.


1-القصه بدأت مع الحرب البارده بين #الناتو والأتحاد السوفيتي.

"في فترة الحرب البارده بين الاتحاد السوفيتي وحلف الناتو

كانت الولايات المتحده التي تقود الحلف تخشى تمدد الشيوعيين في دول الحلف ووصولهم للحكم وسيطرتهم على دول الحلف مما يؤدي إلى فقدانها السيطره على الحلف لصالح السوفيت.

فبدأت بتحريك الناتو العميق لشن حرب خفية على الشيوعيين في دول الحلف وشيطنتهم.

من بين دول الحلف التي بدأت #الشيوعية تتمدد فيها هي " تركيا ".

فبعد الانقلاب على #مندريس والركود #الإقتصادي الذي حدث بعد فترة الانقلاب.

بدات الحركات الشيوعيه تنتشر في تركيا وكانت هناك نداءات بالاتجاه نحو نموذج الاقتصاد الشيوعي وزاد العداء تجاه الناتو من اليسار

لدرجة عندما جاء الاسطول الامريكي السادس الى تركيا تم تجريد الجنود الامريكيين من ملابسهم ورميهم في البحر.

الناتو العميق دعم العداوه بين #اليمين و #اليسار في تركيا ودعم لليمين من اجل القضاء على الشيوعيه.

وتحول الامر إلى ما يشبه الحرب الأهليه والإغتيالات وكانت المدارس والجامعات هي وقود هذه الازمه حيث كانت تنتشر الافكار في المدارس.

شهدت تركيا موجه من الهجمات وكثرت الاغتيالات في المدارس والجامعات 

تاره من اليمين وتاره من اليسار.

الاكراد لم يكونوا بمنأ عن هذه الحرب الاهليه حيث في تركيا كان هناك " أكراد سنه واكراد علويون". جزء من #الاكراد #العلويون كانوا يتبنون الفكر الشيوعي #الماركسي".

خلال هذه الحرب الاهليه التي أودت بحياة مئات الاتراك من اليسار واليمين

إنتشرت الطائفيه في تركيا وكان هناك إنقسام سني علوي لأسباب سياسيه.

وهذه المره تعرضت الاحياء التي يقطنها العلوين الاكراد واليساريين لسلسلة هجمات مسلحه من انصار اليمين المتطرف والمدعوم من الناتو العميق عرفت بإسم ( مذبحة مرعش). وإستمرت قرابة اسبوع وقتل خلالها 111 يساري علوي كردي وجرح المئات. لاحقا تم القبض على 350 يميني متطرف تورطوا بالهجمات وحكم على 22 شخص منهم بالإعدام بينما تم حكم البقيه بالسجن المؤبد وحكم على بعضهم لقرابة 25 سنه. وبالرغم من محاولة الحكومه التركيه آنذاك احتواء الحرب إلا أن مذبحه مرعش علامه فارقه ونقطه فاصله في ظهور حزب العمال الكردستاني"


2_ بعد مذبحة مرعش والتي إستهدفت الاكراد العلويين واليساريين

 كان هناك شاب كردي يدعى " عبدالله #اوجلان" في بداية مرحلة شبابه كان شابا محافظا وحتى انضم للحركات المناهضه للشيوعيه اثناء دراسته الثانويه. لكن مع دخوله الجامعة بدء بالتعرف على جمعية" DDKO"

وهي عباره عن مراكز ثقافيه اسسها طلاب اكراد 

كانت تهتم بنشر ندوات للمزارعين حول الماركسيه والاشتراكيه

ثم لاحقا تحولت لمناقشة ما اسمته القضيه الكرديه.

في 1971 اغلقت الحكومه التركيه والتي كانت تحارب آنذاك الافكار الشيوعيه الجمعيه. اوجلان بعد إغلاق جميعة " DDKO" خطر بباله تأسيس جمعيه جديده أسماها "ADYÖD" وتعني جمعية أنقرة الديمقراطية للتعليم العالي.

هذه الجمعيه أسسها برفقة " دوران كالكان وجميل بييق " وغيرهم من الاعضاء الذي اصبحوا لاحقا قاده في تنظيم pkk.

اوجلان الذي شغل منصب الامين العام لهذه الجمعيه بدأ ينشر افكار حول ما أسماه "مستعمرة كردستان" وخلال هذه الفتره عُرفت جمعيته " بإسم الملحدين". لكن عمر الجمعيه لم يستمر طويلا ففي عام 1975 اغلقت الحكومه التركيه الجمعيه لتبنيها افكارا انفصاليه.

اوجلان لم يستسلم وهذه المره قرر أن يؤسس حزبا سيكون له صيتا عالميا.

-وفي نهاية 1978 وتحديدا في 27 نوفمبر إجتمع أوجلان مع 22 شخصا من رفاقه في قرية صغيره تدعى " فيس"

وقرر اوجلان تاسيس حزب يدعى " حزب العمال الكردستاني ويعرف في تركيا بأختصار pkk. يدير هذه الحزب 7 اشخاص ويكون اوجلان امينا عاما على الحزب.

بدء تنظيم PKK في اللحظات الأولى من تأسيسه صراع على مناطق النفوذ

فبدأ بالخلافات مع حزب TIKP الاشتراكي الثوري وقام بتنفيذ اغتيالات بين اعضاء الحزب. وهنا بدء يذيع إسم تنظيم pkk في تركيا.


3_ إضطر أوجلان للهروب لخارج تركيا خشية الملاحقات الامنيه وفي عام 1979 تم تهريبه بواسطة مهربين إلى سوريا وإستقر في البقاع اللبناني الذي كان تحت السيطره السوريه آنذاك.

" وفي البقاع اللبناني إلتقى اوجلان بمنظمة التحرير الفلسطينية 

والجبهه الشعبيه الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهه الشعبيه لتحرير فلسطين وحركة فتح .

في تلك الأثناء كان البقاع اللبناني تحت السيطره السوريه وكانت سوريا تحت حكم البعث الذي يتبنى القوميه العربيه.

علمت المخابرات التابعه لنظام حافظ الاسد عن وجود اوجلان فرأى نظام حافظ الاسد فرصه ذهبيه لإستخدام اوجلان كورقه رابحه ضد تركيا.

ولم يقم جهاز المخابرات السوريه بتبني اوجلان وحركته فقط بل سهل له دخول 300 عنصر ينتمي لتنظيم pkk للأراض السوريه ثم البقاع اللبناني.

" المخابرات السوريه مولت تنظيم pkk وتكفلت به وتلقى التنظيم ايضا تدريبا على يد حركات المقاومه الفلسطينيه .وحتى أنه شارك مع الحركات الفلسطينية اثناء حربها على البقاع اللبناني وقتل عدد من أفراده اثناء هذه الحرب, وهنا يأتي السؤال...؟ لماذا تبنى نظام الاسد تنظيم pkk في بداياته ...ولماذا اراد استخدامه ضد تركيا..؟.

في الحقيقه ان حزب البعث تحت حكم حافظ الاسد كان يتخذ موقفا معاديا لتركيا منها خلافات حدوديه تاريخيه ...لكن الخلاف الأهم هو الخلاف بسبب المياه. ففي نهاية السبعينات بعد بناء سوريا لسد الطبقه من أجل الاستفادة من المياه وتوليد الكهرباء. قررت تركيا في نهاية السبعينيات ان تستفيد من مياة الفرات ايضا في توليد الكهرباء ففي منتصف السبعينات تقريبا قررت تركيا بناء سد كاركايا. هذا الامر أثار حفيظة حكومه حافظ الاسد الذي قرر

أن يبحث عن اوراق ضغط ضد تركيا في حال قررت تقليص حصة سوريا من المياه. فقرر تبني تنظيم اصاله الارمني الذي تأسس في لبنان والذي قاد حملة اغتيالات واسعه ضد الدبلوماسيين الاتراك في جميع انحاء العالم.

- وفي عام 1979 كان وصول اوجلان لسوريا بالنسبه لحكومة حافظ الاسد هدية من السماء ,فقرر تبني التنظيم وتمويله ودعمه لاستخدامه كورقة ضغط ضد تركيا.


4_ عام 1980 كان بداية الصعود الكبير لحزب العمال الكردستاني pkk .

" في هذا العام حدث إنقلاب في تركيا بقيادة الجنرال كنان إيفرين

والذي قال فيه السفير الإمريكي حينها:لقد فاز رجلنا"يقصد الانقلابي ايفرين، وكان من أسوأ الانقلابات في تاريخ الجمهورية . حيث تم الغاء العمل بالدستور،وتم إغلاق كافّة الاحزاب السياسية، ومراقبة زعماء الأحزاب بشكل دقيق مُحاكمتهم, تخيلوا ان في انقلاب كنان ايفرين المبارك امريكيا تم اعتقال ومحاكمة 650الف تركي وسحب الجنسيه من 14ألف شخص واعلان الاحكام العرفية التي استمرت 7 سنوات. وهنا شكل انقلاب إيفرين في تركيا فرصه كبيره لتنظيم pkk حيث تم الترويج لتنظيم pkk لدى الاكراد على انه فرصه لمقاومة الإجراءات الدكتاتوريه التي تعرض لها الاكراد والاتراك على حد سواء.وبالطبع تمكن تنظيم pkk من استقطاب الاف الشباب الكرد وحينها بدء حزب العمال الكردستاني بتشكيل جبهه جديده لكن هذه المره في العراق. وبالطبع فإن المناطق الجبليه في اقليم كردستان ستكون المكان المناسب لهذه الجبهه.


5- وهذا يعني أن التنظيم سيعمل في الاراض الخاضعه لسيطرة الاكراد في العراق. وفي تلك الاثناء كان اقليم كردستان يشهد صراع نفوذ بين تيارين كرديين. وجود اكراد تركيا في مناطق سيطرة البرزاني دفعت مسعود البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني المعروف بإختصارKDP, لزيارة العاصمه السوريه دمشق وهناك إلتقى زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. وإتفق معه على استخدام تنظيم pkk المناطق الجبلية في إقليم كردستان العراق كملاذ آمن له شريطة الا يحاول التنظيم السيطره على مناطق نفوذ الحزب الديموقراطي.


6_لكن ما حدث لاحقا أن تنظيم pkk حاول السيطره على طرق التهريب الخاضعه لسيطرة قوات البشمركه التابعه لاقليم كردستان. وحاول السيطرة على الإقليمية المناطق التي يحكمها الحزب الديمقراطي الكردستاني. هذا الامر ادى الى توتر العلاقع بين مسعود برازاني زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني وقائد تنظيم pkk اوجلان ووصل الامر حينها إلى إعلان قوات "البشمركة "التابعه للحزب الديموقراطي الكردستاني الحرب على تنظيم pkk في الاقليم. ثم لاحقا تدخل تنظيم pkk في الحرب الاهليه الكرديه التي حدثت في اقليم كردستان بسبب صراع النفوذ إلى جانب حزب " الإتحاد الوطني الكردستاني PUK" بقيادة جلال طالباني المدعوم من ايران ضد الحزب الديموقراطي الكردستاني KDF بقيادة بارازاني الامر الذي ادى لتدخل تركيا إلى جانب #مسعود_بارزاني.


7_ في عام 1984 وتحديدا في 15 اغسطس بدء تنظيم pkk أول هجوم إرهابي له في تركيا. حيث قام التنظيم بتنفيذ هجومين واسعين مختلفين الاول كان على مركز للشرطه في مدينه تدعى " إيروه" في ولايه سرت التركيه القريبه من الحدود. والهجوم الآخر تم تنفيذه على معسكر شمدينلي في ولاية هكاري التركيه ذات الاغلبيه الكرديه. ونتيجه لهذا الهجوم الارهابي قُتل 4 افراد من الشرطه. و7 من أفراد الجيش التركي واصيب بعض المدنيين جراء شظايا القنابل على مراكز الشرطه.

كانت الإجراءات التي إتخذتها تركيا هي بإنشاء جدار سلكي شائك لمنع تسلل عناصر التنظيم عبر سوريا والعراق لكن حدود تركيا ومنحدراتها الجبليه أدت لفشل هذا الإجراء . فقامت بخطة إنشاء " حراس القريه" وهم من المواطنين الاكراد الذين يقطنون المدن الحدوديه حيث يتم تسليح الحراس ويتم توظيفهم في الدوله. ومهمتهم المساعدة في منع عناصر التنظيم عبر الحدود. تنظيم pkk رد على هذه الخطوه بإعتبار أن القرى الكرديه التي يتم فيها تواجد " حراس القرى" سيتم اعتبارهم اكراد خونه يستحقون الموت وهذا ما حدث بالفعل, ففي 8 نوفمبر قام تنظيم pkk بتنفيذ مذبحة " كاراجيت" حيث هجم التنظيم على قرية " كاراجيت" الكرديه كان يستهدف به عائلات حراس القرى ونتيجة للهجوم الارهابي قتل التنظيم 5 نساء واربعة اطفال,

وعُرف هذا الهجوم بأنه اول هجوم إرهابي ينفذه التنظيم على المدنيين في تركيا. تخيلوا منذ 1984 حتى يومنا هذا بحسب أرقام وزارة الدفاع التركيه,

قتل التنظيم من خلاله 14 ألف مدني من أصول تركيه و 6,416 مدني من أصول كرديه يعيش معظمهم في المدن الجنوبيه. بينما كان عدد خسائر تركيا من افراد الجيش والشرطه وحراس القرى هو 8,486 فرد, بينما قتل الجيش التركي ما يقارب 46 ألفا من أعضاء التنظيم.

.استخدم التنظيم الاراض السوريه والعراقيه والمدن الحدوديه التركيه 

منذ ما يقارب 45 عاما, نفذ فيها التنظيم الإرهابي ما يقارب 84 ألف هجوم

 إرهابي في تركيا. شملت الهجمات:

- هجمات ارهابيه بالقنابل على المدن والقرى

- تفجيرات إنتحاريه

- سيارات مفخخه

- هجمات بالاسلحه الثقيله

-هجمات بالاسلحه الناريه

-تفجيرات ارهابيه وسط الحشود

- إحتلال مدن تركيه واعلان حكم ذاتي وحرب عصابات داخل المدن

- احزمه ناسفه يرتديها انتحاريون تم تفجيرها وسط الحشود

- هجمات بالقنابل والهاون على المعسكرات الحدوديه

- هجمات على مراكز الشرطه في القرى والمدن الحدوديه

- تنفيذ عمليات اغتيال.


8- بعد بضعة سنوات من الإنقلاب الدامي وتحديدا في عام 1983 تولى حكم تركيا رئيس وزراء إصلاحي من اصول كرديه " يدعى تورغوت اوزال", فبدأت حينها إتصالات دبلوماسيه بين انقره ودمشق بشأن حزب العمال الكردستاني, إلا أن سوريا أنكرت معرفتها ب "حزب العمال الكردستاني", وخرج حينها وزير الداخليه السوري محمد حربه على أحد أشهر البرامج التركيه "32gün" وانكر معرفته او سماعه بحزب العمال الكردستاني.

في التسعينيات عندما كان اوزال رئيسا لتركيا, كان هناك ثلاثة أسماء في تركيا تعملان لحل مشكلة تنظيم pkk للأبد هما: 

-تورغوت اوزال

-أشرف بتليس

- عدنان قهوجي


9_حيث قاما بإجراء مفاوضات سلام وكانت هناك زيارات متكرره من أشرف بيتليس لاقليم كردستان ولقاء البارازاني. ونتيجه لهذه المفاوضات أعلن تنظيم pkk إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد, لكن يبدوا أن هناك من لا يرغب بحل هذه المشكله وإبقاء تنظيم pkk كسكين يضرب دوما في خاصرة تركيا, العام 1993 يبدوا أن أحدهم ضغط على جميع الازرار لتشغيل وضع الفوضى في تركيا وإدخالها في حقبه سوداء لا تخرج منها.

في 5 فبراير 1993كان عدنان قهوجي والذي عمل مستشارا للرئيس تورغوت اوزال من أجل حل مشكلة pkk, يقود سيارته مع عائلته على طريق انقره إسطنبول السريع لكنه تعرض لحادث سير مشبوه, وقيل حينها أن الحادث كان نتيجة الضباب الكثيف وتوفي عدنان قهوجي على الفور مع زوجته في الحادث. بعد هذا الحادث بيومين كتب الجنرال أشرف بيتليس رساله للرئيس التركي تورغوت اوزال مفادها, أن المروحيات الامريكيه التي تنطلق من قاعدة انجيرليك توزع المساعدات على مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الجبال, بعد هذه الرساله ب10 أيام فقط وتحديدا في 17 فبراير توفي الجنرال اشرف بتليس بتحطم مروحيته, وقيل حينها انه حدث خطأ من طيار المروحيه وسقطت المروحيه نتيجة الثلوج. تورغوت أوزال والذي يشغل منصب رئيس الجمهوريه لم يلبث طويلا فبعد شهرين تقريبا من وفاة عدنان قهوجي واشرف بيتليس, توفي نتيجة ازمه قلبيه...لكن وفاته كانت مشكوكه لدرجة انه تم فتح قبره مره اخرى لأخذ عينات ليتضح انه مات مسموما جراء سم تم وضعه له في عصير الليمون. الأمر لم ينته هنا ففي نفس العام تم إغتيال عضوين كانا يعملان في فريق اشرف بيتليس هما رضوان اوزدن وبهتيار آيدين.


10_وبالرغم من موت مهندسي خطة السلام اوزال وبيتليس وقهوجي في ظروف غامضه. إلا أن الحكومه التركيه آنذاك كانت ملتزمه بخطة السلام بل وقامت بإصدار عفو عام عن اعضاء حزب العمال الكردستاني, إلا أن تنظيم pkk قام نكث بوعده في السلام وقام بخيانه هزت كل تركيا. ففي 26 مايو 1993 تسلل 150 عنصر مسلح من تنظيم pkk إلى طريق " إيلازيغ-بينغول" حيث كانوا يرصدون لحافلتين تقلان جنودا غير مسلحين بملابس مدنيه في طريقهم لوحداتهم العسكريه", مع اقتراب الحافلتين منهما قطع مسلحي التنظيم الطريق وأوقفوا الحافلتين, وانزلوا الجنود من الحافلات واصطحبوهم الى قريه مجاوره وقاموا بصف الجنود واطلاق النار عليهم بشكل جماعي, احدثت هذه الحادثه غضبا وإحتقانا كبيرا في الشارع 

من تنظيم pkk. وبعد يومين من الهجوم شن الجيش التركي هجوما واسعا على عناصر التنظيم عبر الغارات الجويه وقتل العشرات من التنظيم خلال الهجوم, وتجمد ايقاف اطلاق النار بين الطرفين لتعود الاشتباكات مجددا. 


11_ فترة التسعينيات كانت حقبه سوداء بالنسبه لتركيا. ففي الوقت التي كانت تحارب فيه تركيا حزب العمال الكردستاني كانت تخوض حرب استخبارات مع تنظيم اصاله الارمني, وبنفس الوقت ظهر تنظيم كردي سلفي جديد مدعوم من ايران اسمه " حزب الله".


12-في الوقت الذي إشتدت فيه الإشتباكات بين تركيا وعناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني وتنظيم اصاله الارمني وتنظيم حزب الله, كان هناك من يخطط لحرب طائفيه في تركيا. بدأت عبر اخبارا صحفيه تم نشرها 

الاديب عزيز نيسين حيث قيل أن عزيز نيسين سخر من القرآن...والمصادفه انه في الوقت الذي انتشر فيه الخبر, كان عزيز نيسين يقيم في فندق ماديماك بسيواس برفقة 32 من المثقفين والادباء اغلبهم علويون, حيث كانت سيواس شهيره باغلبيتها السنيه, وهنا بعد الخبر خرجت الناس الغاضبه حول فندق ماديماك يهتفون ضد نيسين. وفجأه إشتعل الفندق بمن فيه وتوفي في الحريق 37 شخصا واصيب 51 شخصا بينهم نزلاء في الفندق

ونجا عزيز نيسين من الحادثه بإعجوبه. وبعد هذه الحادثه بثلاثة ايام فقط " وقعت مذبحة باشبغلار", حيث داهم 100 عنصر من تنظيم PKK قرية سنيه في ازرينجان تدعى باشبغلار. واطلقوا الرصاص الحي على سكان القريه ثم احرقوا البيوت ومات في الهجوم 33 مدنيا اغلبهم من المسنين والأطفال وتبنى تنظيم pkk الحادث كرد على إحراق العلويين.


13 _ منذ أول عمليه قام بها تنظيم pkk في الثمانينيات إرتكب التنظيم آلاف المجازر في القرى والمدن التركيه وجميعها موثقه وقد يحتاج الأمر لسلسه طويله منفصله لشرحها. لكن سننشر في هذه السلسه بعض جرائم التنظيم ضد المدنيين الاكراد والاتراك في فترة التسعينيات:

في 18 تموز 1993 هاجم تنظيم pkk قرية Sündüzlü في مدينة وان التركيه وقتل 24 مدنيا.

-في 15 حزيران 1993 اطلق التنظيم قذائف هاون على بلدية Gözlüce في مدينة سيرت الحدوديه وادى ذلك إلى مقتل 9 مدنيين وجرح 4 آخرين.

-في اربعه اغسطس 1993 قطع عناصر التنظيم الطريق بين قريتي ( يني دوغان و قواق باش). واوقفوا حافله تقل 28 مدنيا ...انزلوا الركاب على الارض واطلقوا عليهم النار وقتل في الهجوم 15 مدنيا واصيب 13 مدنيا. 

-في 4 اكتوبر 1993 هاجم 70 عنصرا من تنظيم pkkmقرية Daltepe الكرديه بحثا عن " حراس القريه" الموظفون مع الحكومه ورد حراس باطلاق النار على عناصر التنظيم ...وتمكن عناصر التنظيم من قتل حراس القريه لقلة عددهم. ثم قاموا بجمع جميع سكان القريه في جامع القريه وقاموا بحملة بروبغاندا بنصف ساعه داخل الجامع واطلقوا النار على المدنيين, ونتيجه للهجوم قتل التنظيم العديد من المدنيين في القريه ولم يفرقوا حتى بين النساء والاطفال.

وحينها تبنت صحيفة Serxwebun التابعه للتنظيم الحدث بكل افتخار.


14_ في 4 أكتوبر 1993 زرع تنظيم pkk لغما على طريق القريه في منطقة مديات بماردين التركيه. اصطدمت به حافله تقل 30 مدنيا وقتل جميع من فيها بأستثناء اربعه مدنيين نجوا باعجوبه وكانت اصابتهم بالغه.

-في 5 أكتوبر 1993 نفذ أعضاء حزب العمال الكردستاني هجمات مسلحة على قرى مختلفة في هكاري وسيرت وباتمان، حيث قاموا بإحراق 22 منزلاً وقتل 35 مدنيا، بينهم نساء وأطفال، وأصيب 10 أشخاص باصابات بالغه

- في 21 يناير 1994 قام تنظيم pkk بتنفيذ هجوم ارهابي في قرية أورمانجيك في ماردين, حيث داهمواوالقريه واطلقوا النار بشكل عشوائي على المدنيين ونتيجه للهجوم, قُتِل 21 مدنيا بينهم اطفال ونساء وتبنى التنظيم الهجوم على صحيفتة الشهيرهserxwebun.


15- في 12 فبراير 1994 زرع تنظيم pkk قنبله, في صندوق قمامة في محطة قطار توزلا. وادى الانفجار إلى مقُتل 6 أشخاص، من بينهم 5 طلاب ضباط احتياط في مدرسة توزلا للمشاة، وأصيب 16 طالبًا و11 جنديًا.

-في 10 مارس 1994 اصطدمت حافلة صغيرة بلغم في منطقة جينار في ديار بكر، مما أسفر عن مقتل 9 مدنيين.

- في ليلة 15 مايو 1994، قُتل 9 مدنيين في قرية إيديبوك في منطقة ترجان في أرزينجان, في هجوم نفذه تنظيم pkk على القريه.

- في 30 ديسمبر 1994 توفي الكاتب أونات كوتلار وعالمة الآثار ياسمين سيبينويان نتيجة انفجار قنبلة في محل الحلويات بفندق مرمرة . بينما أعلنت منظمة IBDA-C في البداية مسؤوليتها عن الهجوم، ومع تقدم التحقيق، أُعلن أن الحادث كان من عمل حزب العمال الكردستاني.

-في 31 ديسمبر 1994 أطلق ثلاثة من أعضاء حزب العمال الكردستاني، أحدهم امرأة، على متن حافلة مترو توريزم المتجهة من أنقرة إلى إسطنبول، النار على ركاب الحافلة عند جسر تافشانسيل في هيريكي. واستشهد شخصان في الهجوم.

-في 1يناير 1995 نفذ تنظيم pkk هجوم ارهابي على قرية همزالي في منطقة كولب في ديار بكر ونتيجه للهجوم قُتل 18 مدني وأصيب 9 آخرين

- في25 مايو 1995 حاول عضو من تنظيم pkk كان يحمل قنبله زرع القنبله في محطة حافلات صغيره في باتمان, إلا أن القنبله انفجرت في يده اثناء زرعها ونتيجه للهجوم قتل 7 مدنيين بينهم المنفذ واصيب 20 آخرين

- 24 يوليو 1995 نفذ تنظيم pkk هجوما مسلحا في منطقة جوربينار في فان, وأدى الهجوم إلى مقتل 14 شخصا.

- في 5 أغسطس 1995 نفذ مسلحين من تنظيم pkk هجوما ارهابيا على بلدة أكبيز في منطقة حسا في هاتاي بقاذفات الصواريخ. وأدى الهجوم المسلح إلى مقتل 8 أشخاص، بينهم 3 أطفال، وإصابة 4 آخرين. 

الاثنين، 30 ديسمبر 2024

مسئولية طالب العلم | الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)

 مسئولية طالب العلم

الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الكرام، فإني أشكر الله عز وجل على ما مَنّ به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] وقال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18].

فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.

أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، سمعتم عنوان الكلمة وهي: مسئولية طالب العلم في المجتمع، فالموضوع موضوع عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.

فهناك مسئولية من جهة نفسه، من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين ومراجعة الأدلة الشرعية والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء.

قال الإمام أبو عمر بن عبدالبر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره: (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء).

فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ومن القواعد المعتبرة.. وأن يكون على بينة كبيرة وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.

ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه ومراقبته، وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل وأداء الواجب وبراءة الذمة ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعَرِض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول وفيما يفتي به وفيما يعمل به، ولا يجوز له التساهل؛ لأن طالب العلم متَّبع متأسي بتصرفاته وأعماله، فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.

فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله والصدق في طلب رضاه والحرص الذي لا حدود له في معرفة الأدلة الشرعية والتفتيش عنها؛ حتى يقف على الدليل، وبذلك تنفسح أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلّم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وقد فسّرت البصيرة بالعلم.

أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها أو مسألة يحفظها أو مساعدة ماديّة يقدمها، ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم يترتب على صدقه وإخلاصه وعلى كثرة علمه وتمكّن فقهه وعلى صبره ومصابرته.

وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل وأنهم هم القادة، وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد ﷺ، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهّلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة، فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم والأمة في ذمتهم؛ لأنها بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة، والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم، وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا، والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.

فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف الطالب، وقلة نشاطه وإعراضه وغفلته هذه هي المصيبة العظمى، فالله يقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.

فكلما كثر العلم وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو قل الخوف من الله، أو بُلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة؛ قل هذا العلم وقل هذا الخير، يقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره أن يبلغ الناس ذلك قُلْ أي: قل يا أيها الرسول للناس هَذِهِ سَبِيلِي أي هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي وهي منهجي وطريقي إلى الله.

فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا، فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعا إلى الله على بصيرة وتبرأ من الشرك واستقام على الحق فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم - وليس بالكذب والقول على الله بغير علم تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.

والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين ﷺ إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.

فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل، فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على النهج القويم الذي سلكه الرسل وسلكه أتباعهم بإحسان وعلى رأسهم نبينا محمد ﷺ وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى الذين ساروا على النهج القويم في إثبات أسماء الله وصفاته وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.

ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون، برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك، لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها، أنا لها، ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو بارز دائما لا ينزوي، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها من طريق الإذاعة أو من طريق الصحافة أو من طريق التلفاز أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة حسب علمه وما يسَّر الله له من أنواع الاستطاعة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۝ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].

فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة، فربنا حذّر من كتمان العلم وتوعد على ذلك ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان. التوبة مما مضى من التقصير والذنوب، وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة، وهي تشتمل: على الندم على ما مضى من التقصير واقتراف الذنب وإقلاع وترك لهذا الذنب، خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه. وشرط ثالث: وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم بيان مع ذلك وإصلاح؛ لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته.

وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه، فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل، يعلم ويعمل، لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته وحلقات علمه وخطبة وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه، ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته، ليعطيهم مما لديه من العلم: من قول وعمل، وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.

وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسب الطاقة، وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة، لا يجوز التساهل في هذه الأمور، ولا سيما في عصرنا هذا؛ لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.

وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة في الإذاعات والصحافة والتلفاز وفي النشرات الأخرى، وفي المؤلفات الداعية إلى النار. وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله، بل وأكثر منه، هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين وإلى غير المسلمين؛ لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار، وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار لأن قائدهم يريد هذا، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].

فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا، فإن عليه واجبات، حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل، وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة، فربنا يقول سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ويقول سبحانه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [القصص:87] فالله سبحانه يأمر الرسول ﷺ بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام، فإذا وجه له الأمر فليس له وحده، بل هو ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.

فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا وتناصحه وتوجهه إلى الخير وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة بالعظة والتذكير بالكلام الطيب بالرفق لا بالعنف، وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة، ومع الدعاة، ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.

هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أخرجه مسلم في صحيحه.

وفي الصحيحين عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام: نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أدَّاها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع وفي لفظ: رب حامل فقه ليس بفقيه وفي لفظ: ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: فليبلّغ الشاهد الغائب فرب مبلَّغ أوعى من سامع والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى مع ملوكهم وأمرائهم ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله وجميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة والرفق والحكمة، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه مسلم في الصحيح عن جرير بن عبدالله، وعن عائشة رضي الله عنهما.

وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ويقول الرسول ﷺ في الصحيح: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.

ويكفي في هذا قول الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول الله تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون، يقول الله سبحانه لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل به والتأدب بالآداب الشرعية والخلق العظيم الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.

فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير، ولنذكر أيضا قول الرسول ﷺ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يول عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد ﷺ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد

[ مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 7/ 218]

السبت، 28 ديسمبر 2024

مأساة أميرة شرقية نقد وتحليل | الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (رحمه الله)

 مأساة أميرة شرقية نقد وتحليل
بقلم الأستاذ العلامة المصلح الشيخ محمد تقي الدين الهلالي


بسم الله الرحمن الرحيم
نشرت مجلة (Bombay India of Weekly Illustrated The المصور الأسبوعي للهند بمباي في ٢٧ أغسطس ٩٣٣) ضمن سلسلة مقالات في تاريخ الشرق للكاتب الإنكليزي (كراهام لويس) مقالاً تحت عنوان (مأساة أميرة عربية) ارتكب فيه أخطاء عظيمة، وها أنا ذا مترجم مقاله، فراد عليه بما يجلي الشبهة، ويوضح الحقيقة بعد مقدمة وجيزة في بيان سبب كثرة الأخطاء والأغلاط الجهلية، والخطيئات العمدية، التي تكثر جدًّا في كل ما يكتبه الإفرنج عن الإسلام والمسلمين، والشرق والشرقيين.
مقدمة في أخطاء المستشرقين وخطاياهم
أيجوز أن نتلقى بالقبول كل ما يكتبون عن الشرق؟ لهؤلاء العلماء الأوربيين الذين يَتَسَمَّون بالمستشرقين أخطاء، ولهم خطيئات
أيضًا، أما أخطاؤهم فمنشؤها القصور؛ لأن أكثرهم إذا لم يكن كلهم يتعلمون الآداب والعلوم الشرقية بأنفسهم بمطالعة الكتب، ويستعينون بتراجم أمثالهم ممن سبقهم، فَيُلِمُّون باللغات والعلوم إلمامًا ضعيفًا لا يمكن صاحبه أن يجلس على منصة الحكم ويقضي بالقسطاس المستقيم، والكتب وحدها لا تهدي ضالاًّ، ولا تعلم جاهلاً، وما أحسن ما قاله أبو حيان النحوي وإن كان قد أخطأ في إيراده بالتعريض بالإمام ابن مالك:
يظن الغُمر أن الكتب تهدي ... أخا فهم لإدراك العلوم
ومن يُدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تكون أضل من تُوما الحكيم 
وقد قيل: لا تأخذ العلم عن صُحُفي، ولا القرآن عن مصحفي، فأكثر
المستشرقين صحفيون في العلوم الشرقية، ولنضرب لذلك مثلاًً (جورج سايل) أول من ترجم القرآن إلى الإنكليزية، وهو أحد الثلاثة الذين شهد لهم العلامة أحمد بن فارس الشدياق (رحمه الله) بالمعرفة الحقيقية للغة العربية، وحكم على سائر المدعين لمعرفتها على عهده في البلاد البريطانية أنهم لا يعلمون، ولذلك قرأت شيئًا
من ترجمته، فوجدت في الجزء الأول من القرآن أربعين غلطة، وكتبت في ذلك مقالات نشرتها في مجلة الضياء الهندية في السنة الماضية (١٣٥٢).
ومثال آخر رسائل أبي العلاء المعري ترجمها إلى الإنكليزية عالم إنكليزي نسيت اسمه، وطُبعت في أوربة، طالعتها فوجدتها مشحونة بالأغلاط.
ومثال ثالث ترجمة (محمد مار مادويك) العالم الأديب الشهير صاحب مجلة (إسلاميك كلتشر) أي الثقافة الإسلامية، وله تصانيف جياد قرأت شيئًا من ترجمته للقرآن فوجدت فيها أغلاطًا واضحة جدًّا، وكتبت إليه بشيء منها فاعترف وأجابني شاكرًا وطالبًا المزيد، إلا في غلطة منها؛ فإنه أبى أن يعترف وعمي عليه فهم الصواب فيها، وهي في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١٢] ومثيلتها قوله بعد ذلك: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٣] ترجمها بما معناه أليسوا سفهاء ... إلخ، ووضع علامة الاستفهام في آخر الجملة، وكذلك صنع بالتي بعدها، فلم يميز بين (ألا) المركبة التي هي
همزة الاستفهام ولا النافية كقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: ١٤] ؟ وقول الشاعر:
ألا اصطبار لمن ولت شبيبته ... وآذنت بمشيب بعده هرم
وبين (ألا) الاستفتاحية البسيطة كما في الآية، وفي قول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل البيت...، فكتبت إليه جوابًا وضحت له المسألة، فرجع إلى الاعتراف وقال: إنني متعجب جدًّا من عدم انتباه الأستاذ الغمراوي لهذه الأغلاط، وأنا قد اعتمدت عليه في تصحيح الكتاب، وأقمت سنتين في مصر بقصد تنقيحه.
ولو كان الزمان مواتيًا والفرصة سانحة لصححت ترجمته من أولها إلى آخرها؛ لأنها أول ترجمة قام بها إنكليزي مسلم وآخرها أيضًا، وإن لم تسلم من الأغلاط المعنوية أيضًا؛ ولكنها على كل حال أفضل من تراجم النصارى.
وأما الخطيئات فيرتكبها ثلاثة أضرب من المستشرقين:
(الضرب الأول) هم القسيسون المتعصبون كجورج سايل المتقدم ذكره ومرجليوث وزويمر ومن على شاكلتهم، والحامل لهم على ارتكابها شدة بغضهم للإسلام وللشرق كله من أجل الإسلام.
(الضرب الثاني) السياسيون المستعمرون وغرضهم معروف.
(الثالث) الأدباء الذين لا يترفعون عن الكذب وزخرف القول ليكتسبوا بذلك المال الوافر، والشهرة الواسعة، وإعجاب القراء الأوربيين الجاهلين، الذين يصدقون كل ما يقرؤون عن الشرق والشرقيين.
ولعل (مستر لويس كراهام) محرر المقالات الشرقية الأدبية التاريخية في مجلة (المصور الأسبوعي) التي تُنشر باللغة الإنكليزية في مدينة (بمباي - الهند) من هذا الضرب الأخير؛ فإنه  كتب مقالاً في المجلة المذكورة بتاريخ ... تحت عنوان (مأساة أميرة شرقية) وملأه بالأكاذيب والأخطاء والخطايا، وستقف على ذلك فترى كيف يعبث كُتاب أوربة بالحقائق، ويتحدثون عن التاريخ العربي بما يشبه قصص ألف ليلة وليلة، لا فيما ينشر في بلادهم فقط، بل فيما ينشر في الشرق الإنكليزي وأكثر المستعمرات وشبه المستعمرات أيضًا، ونحن عن ذلك غافلون أو متغافلون.
قبل الشروع في نخل مقال كراهام، ووضعه على محك النقد يجب عليّ أن أعترف بأن هنا لك قسمًا رابعًا من المستشرقين هم بريئون من تعمد الخطيئات ومبرؤون عنها، وكانوا قبل هذا الزمان قليلاً جدًّا، فمنهم توماس كارليل وجيبون وكوثى، وأما في هذا العصر فهم بحمد الله كثير لا يحصون؛ ولكن الخاطئين أكثرمنهم بكثير، بل لا مناسبة بينهم، فيجب علينا أن نفتح عيوننا، وننظر ماذا يقال عن أدبنا وتاريخنا في الصحف والمخيلات (السينمات) ودور التمثيل وسائر الأندية، ونغبر في وجوه المبطلين اهـ.
قال لويس كراهام:
الجمال في النساء يجلب لمن تحلت به كفلين متساويين من سعادة وشقاء، وصحف التاريخ طافحة بالحوادث التي أتاح الحسن فيها للمرأة الثراء والغنى، والمكانة، والنعيم والعذاب.
يظهر أن كل صورة ظهرت ملأى بالنور والغبطة تكون خاتمتها أبدًا ظلمة وانحطاطًا من شامخ إلى هوة سحيقة.
ليلى بنت الجودي الغساني رئيس القضاة وُهِب لها جمال زاهر يحرق قلوب الرجال، ويبعث أهواءهم، لقد اشتهرت شهرة واسعة بالجمال الفاتن منذ صباها، ولم تلبث أن تزوجت بمالك بن نويرة، وكان مالك صديقًا حميمًا للبطل الإسلامي العظيم (خالد بن الوليد) ولأسباب خارجة عن هذه القصة أتى مالك عملاً جعل خالدًا لا يثق به، وساءت العلاقات بينهما جدًّا، حتى انتهى ذلك إلى أن صار كل
منهما رئيسًا لفرقة معادية للأخرى، وكلتا الفرقتين تبذل أقصى جهدها للفتك بالأخرى بحجة شرعية في معتقدها الخاص، ولم تدم هذه الواقعة طويلاً حتى وقع البائس مالك بن نويرة هو وحليلته ليلى أسيرين في يد خالد.
والآن قد ألممنا بشيء من وصف ليلى نقول: إنها وهبت قلبها لزوجها، وعزمت على أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في الدفاع عنه لتربح حياته، وكانت النساء إذ ذاك محتجبات، وكان كشف وجوههن يعد خزيًا وعارًا، ومع ذلك تزينت ليلى بحليها، وأرادت أن تجعل حسنها شفيعًا في زوجها، فعزمت على أن تقصد خالدًا تطلب منه الرحمة، وتظهر أمامه سافرة، وتضم إلى حسنها شفيعًا آخر وهو أعذب ما تقدرعليه من الكلام لعله يهب لها حياة مالك.
كانت تلك الليلة ليلة لهو وطرب وسرور، وانبساط وشرب خمور، في معسكر خالد، والجنود مغتبطون قاعدون حول النار يصطلون، ويعددون أعمال ذلك اليوم (الوقعة) وبينما هم كذلك إذا بشبح متزمل بعباءة كثيفة يجتازهم حتى يقف أمام فسطاط خالد، فما هي إلا همسة يهمسها الشبح للحارس حتى يلج الفسطاط، ويرى خالد مضطجعًا على سريره ليستريح، وكانت ستائر الخيمة من الجوخ
العالي الذي أُخِذَ من الغنائم، وذلك السرير بعينه جاء من قافلة فارسية، وكان الفسطاط مضاء بنور ضئيل، ورائحة العود تعبق فيه وتزيده روعة وجلالاً، وما وقع بصر خالد على الشبح حتى نزع العباءة الضخمة التي كانت تحيط به، وظهرت ليلى أمام خالد، ولم تلبث إلا لحظة حتى جثت على ركبتيها، وتفجر من بين شفتيها الجميلتين جدول منحدر من الكلام، وكأن قلبها في مخالب طائر، وأسعدتها عيناها ففاضت بالدموع، فرأت ابتسامة على شفتي خالد، واهًا! لقد نجحت! لقد أذاب جمالها قلب القائد الحربي الحديدي، سُرت ليلى بذلك. بغتة يكسر صوت خالد ذلك السكون، وكان صوته غليظًا خشنًا من الغضب، ما كادت ليلى تسمع رنين لفظه حتى جحظت عيناها من الرعب، ولما رأت الرجل الذي دعاه خالد فزعت منه، وأرادت أن تجفل؛ ولكن دمها صار جمدًا حين سمعت نص الحكم الذي فاه به القائد، اضرب عنق مالك في الحين، وادع لي إمامًا يعقدلي على ليلى الآن.
أما الرعب والفزع الذي وقع لهذه المرأة السالبة للعقول فلا يمكن وصفه، فتصور القارئ له خير من أن أصفه له، فكرت ليلى لحظة وهي في غاية الاضطراب، فتحققت أن جمالها هو الذي خذلها وأسلمها، لقد أنتج عملها ضد المقصود، فبدلاً من أن توقظ رحمة خالد أيقظت هواه، لم يضع شيء من الوقت ففي الحال أُبْلِغ البائس مالك الحكم، وما شعرت ليلى وهي لا تزال جاثية ذاهلة أمام سرير خالد إلا وصوت مالك يرشق قلبها المثقل بالآلام ضغثًا على إبالة (هذا هو سر القضية، ما قتلني إلا أنت) ، وهكذا صارت ليلى زوجًا لخالد لاعنة جمالها الذي كان نكبة عليها.
حقًّا لقد كان جمال هذه المرأة مدهشًا، وناهيك أنه في وقعة عقرباء جالت جنود خالد جولة (انهزمت انهزامة قليلة) فهجم العدو على فسطاط خالد، وكان سيدهم (مجاعة) قد أسرته خيل خالد من قبل، فوجدوه مطروحًا هناك موثقًا، فأراد هؤلاء البدو المتوحشون أن يقتلوا ليلى؛ لكن جمالها الفتَّان كان قد سرى في
قلب (مجاعة) وعمل عمله، فدفعهم عنها وأجارها منهم، وأرادوا أن يفكوا أسره، فأبى وفضَّل أن يبقى أسيرًا عند ليلى ليمتع بصره بالنظر إليها حينًا.
واشتهر جمال ليلى وطار صيتها في الآفاق حتى صار الناس يتغنون به في المدينة، فهاج هوى عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذ يشبب بها، ويتغنى بحبه لها، وما زال هائمًا بها حتى أسعده الحظ بتزوجها فرفعها إلى أعلى مكانة من الإجلال حتى هجر لأجلها نساءه وخليلاته (سراريه) .
لكن ذلك الإجلال والعشق كان فارغًا؛ لأنه إنما كان يحب الجمال الجسمي، ضاربًا عرض الحائط بجمالها النفسي، كان زواجه غمًّا عليها وحزنًا، لم تزل الأميرة البائسة تذكر مالكًا وأيامه السعيدة، ولما وجدت نفسها في مستوى الحيوان الأعجم إن هي إلا متعة وملهاة، انقبضت نفسها، واستولى عليها الهم، وغلب عليها الصمت، فنحل جسمها، وذبل جمالها، فذبل معه حب عبد الرحمن لها.
وفي خاتمة الأمر رجعت إلى بيت أبيها لتقضي بقية أيامها في تفكير هادئ، وهكذا كانت عاقبة هذه المرأة العجيبة - كانت حياتها كما ترى حياة شاقة أدت لأجلها ثمنًا غاليًا حتى على حسنها وجمالها.
* * *
في الفسطاط صور الكاتبُ داخلَ فسطاط خالد صورة تضاهي غرفة أحد ملوك الهند في العصر الحاضر، فهذه النارجيلة الطويلة قائمة منتصبة، وهذه باطية بلورية مملوءة خمرًا تحفها الكاسات النفسية، وهذه المباخر يتصعد في جو الحجرة دخانها ويعبق
طيبها، وهذه المصابيح الجميلة معلقة يتوقد نورها، وهذا خالد بن الوليد الذي اخترعته مخيلة كراهام مرتديًا ثيابًا فاخرة على الزي المصري تخاله أحد العمد المترفين جالسًا على كرسي مزخرف بديع، وتحت قدميه الحافيتين كرسي جميل لوضع القدمين، وها هي ذي المائدة البهية منصوبة عليها من الفواكه ألوان وأفنان. وهذه ليلى ابنة الجودي عارية النصف الأعلى من جسمها تقريبًا، متزينة بأقراطها وفتخاتها، وثلاثة أزوج من الأساور، فزوج في عضدها، وآخر أسفل قليلاً من مرفقها، وثالث في معصمها، متجردة في سراويل بلا غلالة ولا درع،وحجالها في أسفل ساقيها إلى كعبيها، غادة بيضاء، وسيمة جيداء، ملفوفة لفاء، هضيمة الخصر عظيمة ما تحته، طوالة زلحة برهرهة (ولولا التأدب مع المرحوم
العلامة أحمد بن فارس صاحب الساق على الساق لأسهبت في سرد هذه الأوصاف) ترى هذه المرأة الفتانة جاثية على ركبة واحدة، محدقة النظر في وجه خالد العبوس، جزوعًا هلوعًا، مستعطفة مستحرمة بعينيها، ومنظرها الذي يذيب الجماد، بله،
جدول الكلام المنصب المنساب من شفتيها كما قال كراهام مخترع القصة نفسه. وأما خالد هذا الخيالي فيتصوره الرائي مقطب الوجه إلا أن عينيه لا تستطيعان أن تخفيا ما سرى في جسمه ونفسه من الهيام بحسن هذه الدمية الجاثية بين يديه، وهي كما قال الكاتب (تراجيدي) أي مأساة ترق لها قلوب الأسود الهصر، والسباع الضارية، لو كانت حقيقية أو خيالية، أما وقد أساء مخترعها إلى
القراء بأن جعلها في الدعوى حقيقة تاريخية، وفي الواقع خرافة خيالية؛ فإن ذلك يغض من روعتها، ويقلل من تأثيرها، ويشوش تصورها.
فيا ليت شعري أكان كراهام لويس جادًّا أم هازلاً، جاهلاً أم متجاهلاً، مستهزئًا بنفسه أم بالقراء، أم بالتاريخ أم بالأدب حين أخذ صورة امرأة خليعة من نساء الفرس الساكنين في بمباي ووضعها بين يدي صورة فلاح غني من ريف مصر في غرفة راجا هندي مترف، وقال للناس هذه صورة خالد بن الوليد القائد
العربي، لا في بيعة بحمص أو دمشق (فيكون الأمر لولا النارجيلة والخمر قريبًا) بل في معسكره بالبطاح من أرض بني تميم وهو في سرية متحفز لقتال أهل الردة؟
لكن هذا الكاتب الظريف أبى له خياله إلا أن يجعل فسطاطه مجلس كسرى أو قيصر، وأضاف إليه نارجيلة، لئلا يحرم من زينة مجالس أولي النعمة والترف من أهل الشرق الأقصى، وليس على فكره بمستنكر أن يجمع الأزمنة في زمان واحد، والأمكنة المختلفة في مكان واحد، والأشخاص المتعددين في شخص واحد كما
سيأتي بيانه في تحقيق قصة ليلى ابنة الجودي , لقد أعجبني جدًّا ما قال الأستاذ معين الدين أحد رفقاء دار المصنفين في رده على هذا الكاتب في مجلة (معارف) الأوردية؛ فإنه بعد أن فند ما تكذَّبه الكاتب، وأدى إليه ما يستحقه من الاحتقار قال ما ترجمته: تصويره خالدًا وفسطاطه كمن يصور المسيح على طيارة يحوم في جو
باريس ويتفرج على قصورها.
ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول: قد أجاد الأستاذ في تنظيره وتمثيله، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد اكتشاف كولومبوس أمريكا، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة، بل في هذا الزمان نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن الخمر؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر
كانت محتوية على الخمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأي رجل من زنوج إفريقية، بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة؟
وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية، أو أدعي له العصمة الواجبة للأنبياء؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية؛ ولذلك أحصر ردي عليه فيهما؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ المعتبرة يثبت بها ما افتعله؟ هيهات ذلك.
لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيقvفي التاريخ والأدب، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك، ولكننا بعد ماvرأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا. وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط والكذب البحت، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل والكذب، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل شك ويلاشي كل ريب.
ومن العجيب أن الأديب " كرهام " جعل من خالد خالدَيْنِ، ولرجل واحد صورتين، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها، في جزء ٨ أكتوبر ١٩٣٣ فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة، ذو لحية مقصوصة
قصًّا غير بليغ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي، وملامحه مخالفة أشد المخالفة لملامح الأول، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين، فهكذا يكون التخبط، وإلا فلا.
* * *
الرد على مقاله ومناقشته الحساب
(١) زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن - يعني ابن أبي بكر الصديق - ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا، ففتن بها حتى أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها
فرجعت إلى بيت والدها بدمشق، وقضت بقية حياتها فيه، هذا ملخص قصة ليلى بزعمه.
أقول: وهذا كذب محض، وجهل فاضح؛ فإن ليلى بنت الجودي لم
يتزوج بها مالك بن نويرة، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة العرب وكان وثنيًّا مشركًا، وليلى بنت الجودي نصرانية، وأبوها أحد رؤساء النصرانية في دمشق. وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها اسمها أم تميم بنت المنهال، لم يتعشقها عبد الرحمن، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها.
وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي، فمزج امرأتين وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته، وسيجيء الكلام على ليلى بنت الجودى في آخر الرد، إن شاء الله.
(٢) زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد، وهو كذب أيضًا؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين (فيما نعلم) أن خيل خالد أخذت مع مالك زوجته، والحقيقة - كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها - أن خالد ابن الوليد نزل بالبطاح، وبث سراياه، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع، منهم مالك بن نويرة، فسأل خالد الذين جاءوا بهم: أهم مسلمون فيبقيهم أم مرتدون فيقتلهم؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون، وأنهم أذَّنوا وصلوا معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا، ولم يذكر أحد أنه كانت معهم امرأة، مع أن الرواة ذكروا كل شيء، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن ذلك كان ليلاً، وأن البرد كان شديدًا.
(٣) زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها، وأزمعت أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع لزوجها؛ فلما رآها عشقها، وأصدر أمره بقتل زوجها، ودعوة إمام لعقد النكاح، وخلق لها عباءة كثيفة، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن عارًا، وهذا كله كذب وجهل، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى في نساء المسلمين؛ فكيف بنساء المرتدين؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن طويل. (انظر كتابنا: الإسفار في مسألة الحجاب والسفور) ولم يكن عقد النكاح
يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا، وإنما هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية، وليس ذلك بمشروع في الإسلام، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين، ولكن أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة، وأما خالد فلم يكن له إمام، بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام، ولم يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير:
مجلد ٦٤، ص ١٩٢.
(٤) لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن يتصور متصور - حتى في هذا الزمن - أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم، فتدخل على رجل أجنبي يملك ناصيتها، وتخلو به في خيمته، لأمور:
(أ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن، ولا سيما في ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت، ينتظر كلمة تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد يعرف عادات العرب وأحوالهم؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد؛ إذ الخلوة بالأجنبية - ولا سيما في الليل - فسق موجب للعزل والتعزير، ولا يمكن لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب، بل ولا من أوساطهم ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر.
(ب) أن (الديمقراطية) عند العرب كانت في عنفوان شبابها، ولم يكن الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا، والدليل موجود في نفس القصة وهو شيئان:
(الأول) : أن بعض الجند - وهم الأنصار - اختلفوا مع قائدهم خالد في التوجه إلى البطاح، فقال لهم خالد: لا أكره أحدًا منكم، أما أنا فذاهب؛ فتخلفوا عنه وذهب، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به.
(الثاني) : أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه، حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من خالد، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل.
(ج) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد، وفيهم عمر بن الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على عزل خالد، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل بعزله، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح، بل في حياة زوجها، لأخبر بذلك عمر، وكانت حجته قائمة على فسق خالد، ثم لشنع عمر بذلك على خالد، وألزم أبا بكر عزله، فلا يجد منه بدًّا.
(٤) ربما تكون العادة عند الأوروبيين - قوم الكاتب - أن المرأة إذا أرادت أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير، فيقضي حاجتها، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك، فإن المرأة إذا ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة، وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة، لا تتمكن من الدخول على الأشراف.
(٥) زعم " كارهام لويس " أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط، وأكل وشرب، وسكْر ورقص، وخلاعة وبطر؛ احتفالاً بالنصر والظفر، وقد زل حماره في الطين في هذا أيضًا، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ إلمامة به، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب، ولخجل من نفسه (كما يقول الإنكليز) قبل خجله من الناس. لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند
الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين استعبدوكم قرونًا - أعني الروم الجبابرة - في ربع قرن أو أقل على قلة عددهم وعُددهم.
إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام، وأتمنى أن تعلم - ولو قليلاً - سيرة محمد وأصحابه الأبرار الأطهار. أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم في الوقت الحاضر: كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب؟ إن أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء بنبيهم، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: ١٦) ثم اقرأ في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: ٢٩) ثم اقرأ في سورة الذاريات: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: ١٧ - ١٩) وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

الخميس، 26 ديسمبر 2024

العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي | الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (رحمه الله)

 العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي

الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (رحمه الله)

في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) أو كما قال، وعن ابن مسعود: (كل يوم ترذلون، لا أقول: عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير ولكن بذهاب علمائهم فيضعف الإسلام) أو كما قال .أنعي إلى الأمة الإسلامية أحد أركان العلم والإسلام وأنا في غاية الحزن والأسى ألا وهو العلامة المتبحر في العلوم المجاهد العالم صاحب الفضيلة الأستاذ

الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي المغربي القاطن ببلد الزبير من أعمال البصرة. مولده ومنشؤه في قبيلته (إذَ بَلْحسن) أي بني الحسن قبيلة عظيمة من قبائل العرب من أهل شنقيط معروفون بالعلم والشجاعة، وقد نبغ منهم خلق من العلماء
والشعراء، رحل الفقيد إلى الشرق وهو شاب بعدما درس العلوم التي تدرس ببلاده، ولما وصل إلى مكة وجد بها العلامة الكبير الحافظ الشيخ شعيب الدكالي بارك الله في حياته فألقى بها عصا التسيار، ولازم العلامة المذكور سنين، وكان أستاذه هذا معجبًا به حتى إنه كان يرد إليه المسائل الأدبية فيتكلم فيها أثناء الدرس، ثم زار الشيخ شعيبًا أحد أعيان أهل البصرة ممن كانوا يلقبون بكلمة (الباشا) التركية في عهد الترك، فسأل هذا الوجيه الحافظ الدكالي أن يبعث معه من يرتضيه من العلماء ليؤسس له مدرسة ومسجدًا ويقف عليهما ما يكفي للنفقة عليهما من المال، فندب
لهذا الأمر صاحب الترجمة فامتثل أمره وتوجه إلى الزبير، وأقام بها ينشر العلم صابرًا على أذى شياطين المتفقهة ممن يشرقون بنشر العلم النافع المحمدي الصحيح؛ لأنه يبطل نواميسهم ومكرهم الذي نصبوه حبالة لصيد الحطام، وقد أجمعوا أمرهم على إخراجه وشكوه مرارًا، وهو صابر ثابت على خطته في نشر العلم والإعراض عن الجاهلين، وكان رحمه الله آية في الحلم، بعيني رأيت أكبر أعدائه الذي كان سببًا لكل ما أصابه من الأذى التجأ إليه في شدة أصابته فقابله الشيخ الفقيد بما جبل عليه من البشاشة وأخرج أوراقًا مالية فناوله إياها، ثم أمر أحد التجار أن يعطيه عدة أكياس من الرز على حسابه، هذا بعد ما فشل ذلك الشيخ المشاغب في جميع محاولاته.
وواقعات حلمه مشهورة، وكان سراجًا. منيرًا في الخليج الفارسيوبلاد العراق ونجد. وفي زمن الحرب الطرابلسية شد الرحل من العراق إلى طرابلس للجهاد، وسافر إلى بلاد نجد ليستوطنها فرارًا من الكون تحت تأثير الأوربيين فلم يستقم له ما أراده، فرجع بعد ما أقام بعُنَيْزَة أربع سنين قضاها كلها في نشر العلم والعمل، وترك أهل عنيزة كلهم ألسنًا ناطقة بالثناء عليه، ثم توجه إلى الكويت وما مضت عليه هناك إلا ليلة واحدة حتى نُفِيَ لاتهامه بعداوة الإنكليز، فتوجه إلى الزبير ثانية، وأسس (مدرسة النجاة) هناك وكانت الأمية والجهل مخيمين على بلدة الزبير، فحاربتهما هذه المدرسة بأن ضمت بين جدرانها مئات من أولاد إسماعيل وقحطان،
فهذبت من أخلاقهم، وتخرج فيها خلق من الكتاب والأدباء والعلماء، ولا تزال قائمة إلى الآن.
ولما ازدهرت هذه المدرسة التهبت قلوب المتفقهة حسدًا، وكبر عليهم مقام الشيخ وتذكيره بآيات الله، فأجمعوا أمرهم ليقضوا عليه ولا ينظروه، فرموه بأنه يعلم تعليمًا وهابيًّا يسمِّم أفكار شبان العراق، زخرفوا هذه الوشاية إلى ولاة الأمر
ليقطعوا الإعانة التي كانت تتلقاها المدرسة من وزارة الأوقاف العراقية، ومن وزارة المعارف ومجموعهما اثنا عشر ألف روبية، فكادت المكيدة تنجح ولكن الشيخ بادر بالتوجه إلى بغداد وعرض عليهم منهاج الدروس ولم يكن فيه شيء مما يسميه الجهلة وهابية إلا العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ولا يخفى أن الجهلة يعدون ابن تيمية وهابيًّا) فحذفها الشيخ من المناهج وجعل محلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي فبطل كيدهم واستمرت الإعانة جارية.
ثم بعد سنة جدَّد أولئك الشياطين الكرة فنجحوا وقطعت إعانة الأوقاف؛ ولأمر آخر نذكره؛ لأن فيه عبرة للمسلمين قطعت إعانة المعارف أيضًا، وذلك أن الشيخ كان عضوًا في إدارة المعارف بالبصرة، وكان قد بقي في المدارس الابتدائية بالعراق درس ديني ودرسان في الأسبوع وهذه الدروس الدينية كلها لا تزيد على بضع كراريس بقطع صغير في العقائد إجمالاً والطهارة والصلاة والصوم والحج، وكانوا
يُعَيِّنُونَ لتدريس هذه الدروس عالمًا أو مُلاَّ كما يقولون من المتدينين أو المعممين كما يسميهم المتنورون!!! فاجتمع هؤلاء المتنورون بنورة أعداء العروبة والإسلام وقرروا تطهير المدارس من هؤلاء المعممين وأجمعوا على أن يعينوا بدلهم شبانًا من المتنورين، فعقدوا اجتماعًا دَعَوْا فيه الأستاذ الفقيد للحضور وعرضوا عليه هذا المكر الذي بَيَّتُوهُ، وأضافوا إليه من سب المعممين والوقيعة بهم ما شاءت لهم النورة، فامتنع الشيخ من الموافقة امتناعًا كليًّا، وكان رحمه الله على ما فيه من الحلم النادر إذا وصل الأمر إلى هدم الأصول يتصلب فلا تلين قناته لغامز، فجعل بعض المتنورين يجادله فتكلم الشيخ وقال: أنا أعرف الشبان وأعرف المعممين فَهَبُوا أنهم بلغوا في البلادة والجمود كل مبلغ ولكنهم يعملون بما يعلمون، يعلمون التوحيد وصفات الله وهم بها مؤمنون، وأما هؤلاء الشبان فإنا نراهم متى ذكروا العقائد بادروا إلى السخرية التي لقنهم أعداء العرب والإسلام. ثم يعلمون أركان الإسلام وهم
يؤدونها، وأما هؤلاء الشبان فلا يتوضئون ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، فهل تظنون أن الإسلام لعبة يصح بمجرد الدعوى الفارغة! وبعد هذا انصرف من مجلسهم فتسببوا في قطع الألفين اللذين كانت تعطيهما وزارة المعارف وبقيت المدرسة على تبرعات المحسنين وقليل ما هم، فنقصت حتى صارت على الثلث، وكم حاول قوم من الأعيان أن يقنعوا الشيخ بالخضوع إلى سلوك منهاج المعارف
والسير تحت مراقبة مفتشها وترد النفقات التي قطعت فأبى وجمع من يظن بهم الإخلاص من المدرسين وخطب فيهم وذكرهم بما يجب عليهم من خدمة الأمة فقنعوا كلهم أن يأخذوا ربع أو ثلث ما كانوا يأخذون من الرواتب ولا ينهزمون. وكان رحمه الله قدوتهم في ذلك فإنه كان يأخذ.في زمان ميسرة المدرسة ١٥٠ روبية فأنزلها إلى ٥٠ وبقيت المدرسة عامرة إلى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تقبل من الطلبة إلا نحو نصف العدد الذي كانت تحويه من قبل. ومناقب هذا الإمام كثيرة يضيق هذا المقام عن عشر معشارها.
توفي إلى رحمة الله ضحى يوم الجمعة ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٥١ على رأس ستين سنة كلها جهاد وصلاح وخير للمسلمين، ولم يتخلف عن جنازته أحد من أهل الفضل من البلدين البصرة والزبير، ولو كانت البلاد محتوية على وسائل
النقل لحضر جنازته الجم الغفير من أهل نجد وأهل الخليج الفارسي وأهل العراق، فالله يلهم ذويه الصبر الجميل ويخلفه على المسلمين وإن كان كما قال الشاعر:
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكّفِّر
ولكن الله يفعل ما يشاء.
_________________
[المنار]
لله در أخينا الأستاذ الهلالي أتى بخير خلاصة لترجمة هذا الإمام المصلح بأدق عبارة وأجمعها للفوائد، وأنزهها في التعبير، ولا سيما موقف الرجل بين فريقي الشيوخ الجامدين، والشبان المتفرنجين، اللذين يكاد يضيع الإسلام
بينهما، فالشيوخ على محافظتهم على التقاليد الخرافية المنفرة عن الإسلام ومحاربتهم للإصلاح الديني والدنيوي لا يزالون يقومون بشعائر الإسلام وأركانه علمًا وعملاً، وبهذا فضلهم الشيخ رحمه الله على الشبان الذين ليس لهم من الإسلام إلا الجنسية السياسية، وأسماء الأعلام ولكنهم يعنون بالإصلاح الإداري والسياسي، ونراهم ينتصرون على الشيوخ في الحكومات التي ترى نفسها مضطرة إلى نظام
المدنِيَّة العصري، وبهذا حملوا حكومة العراق على إلغاء الإعانتين اللتين كانت تساعد بهما (مدرسة النجاة) من وزارتي المعارف والأوقاف. وهي خير من جميع مدارس العراق، فعسى أن تعيد النظر إلى ذلك وزارة العراق الجديدة التي هي أرجى وزارة ألفت في دولتها الجديدة وتعيد إليها الإعانتين، فلن ينفعها الإصلاح المدني بدون الإصلاح الديني، والله الموفق.
[#مجلة_المنار جـ 33 ص 130]

الاثنين، 23 ديسمبر 2024

دواء الشاكين وقامع المشككين 1 | الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (رحمه الله)

دواء الشاكين وقامع المشككين

الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (رحمه الله)


دعاني رئيس تحرير مجلة دعوة الحق إلى كتابة مقالات تنشر فيها مما يناسب الغرض الذي أنشئت لأجله وهو الثقافة العامة. وقد رأيت وسمعت أن بعض الشبان وبعض المتصابين من الكهول يشتكون من داء الشك في العقائد الإسلامية والتشريع المحمدي الأغر.

وبالطبع ينتهج هذه الفرصة أبالسة التشكيك والتضليل من المستعمرين الروحيين في خارج البلاد ووكلائهم ف يداخلها. فرأيت أن الكلام في هذا الموضوع من المهم المتعين، وإن كان ائتمنا أهل الحديث –نضر الله وجوههم في الدنيا والآخرة- قد نهوا عن الخوض في علم الكلام والجدل دون أن تدعو إلى ذلك ضرورة مقاومة المفسدين أو تثبيت عقيدة المؤمنين فعند ذلك تتعين المقاومة ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال تعالى في سورة البقرة في الحزب الثالث باصطلاح المغاربة : «إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم» وروى احمد بن حنبل رحمه الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار». وسأسوق بإذن الله من البراهين القاطعة التي تضطر كل عاقل يطلب الحق إلى الاعتقاد الراسخ لوجود الله سبحانه وأنه الخالق البارئ لكل شيء في العوالم العلوية والسفلية والمهيمن عليه والمدبر لجميع شؤونه وحده بلا شريك ولا ظهير ولا معين.

التعريف بكتاب علمي قيم

ألف العالم الفلكي الأمريكي الطائر الصيت كويسكي مورسن كتابا نفيسا باللغة الانكليزية. وقد ترجم هذا الكتاب باللغة العربية مصدرا بمقدمة لشيخ الأزهر السابق وسماه المترجم (العلم يدعو للإيمان) إلا أن الترجمة في بعض المواضع غامضة لا يتبين معناها وليست موجودة عندي الآن، وإنما أعتمد في ما انتزعه من البراهين العلمية على النص الانكليزي وبالله التوفيق.

بدأ هذا المؤلف الحكيم كتابه بمثل ضربه فقال : «افترض أنك أخذت عشرة أفلس وكتبت على كل واحد رقما مبتدئا من واحد إلى عشرة، ثم وضعت الأفلس العشرة في كيس ثم هززت الكيس هزا عنيفا حتى اختلط الأفلس على أن تصادف يدك عند إدخالها الكيس في المرة الأولى الفلس المرقوم بواحد وفي المرة الثانية الفلس المرقوم برقم اثنين وفي الثالثة الفلس المرقوم برقم ثلاثة وهكذا إلى آخرها على الترتيب. فكم يكون حظك من النجاح في المرة الأولى أن تصادف الفلس المرقم برقم واحد وفي المرة الثانية الفلس المرقم برقم اثنين على التوالي يكون واحد في المائة، فإن أردت أن تدخل يدك في الكيس ثلاث مرات متوالية وتصادف في المرة الأولى الفلس المرقوم برقم واحد وفي المرة الثانية الفلس المرقوم برقم اثنين، وفي المرة الثالثة الفلس المرقوم برقم ثلاثة فإن حظك من الناجح يكون واحد في الألف، وإن أردت أن تصادف الأول والثاني والثالث والرابع على التوالي فإن حظك من الناجح يكون من عشرة آلف، وقس على ذلك إلى العاشر فإن حظك من النجاح أن تصادف يدك الفلس المرقوم برقم واحد إلى الفلس المرقوم برقم عشرة على التوالي يبلغ رقما لا يتصوره العقل وهو واحد من عشرة ملايين».

والغرض من ضرب هذا المثل السهل إدراكه أن نبين مقدار استحالة قول من يزعم أن هذا العالم تم خلقه وتدبيره بالمصادفة، فإن هناك شروطا لازمة لوجود الحياة على أرضنا هذه، وهذه الشروط لا يمكن أبدا من الوجهة الحسابية أن توجد كلها بالنسب المطلوبة بالمصادفة المجردة على أي أرض في أي زمن، لذلك يتحتم أن يكون وراء الطبيعة كائن عالم مدير، إذا علمت ذلك وهو حق تعلم يقينا أن خلق هذا العالم مقصود ومقدر قبل وجوده تقديرا دقيقا، إذن فالغرض من تأليف هذا الكتاب الإشارة إلى شيء من نظام هذا الكون العجيب.

دعنا الآن نختبر الحقائق المدهشة، زعم علماء الفلك أن نجما عظيما مر بقرب شمسنا ودنا منها دنوا كبيرا بحيث وقع فيها ارتجاج واضطراب عظيم فانشقت وانفصلت عنها قطع كبيرة وكل قطعة اتخذت لها فلكا ندور فيه وكان ذلك منذ ما يقرب من بليونين من السنين، ثم أن إحدى تلك الكتل التي انفصلت عنها قطع كبيرة وكل قطعة اتخذت لها فلكا ندور فيه وكان ذلك منذ ما يقرب من مليونين من السنين، ثم أن إحدى تلك الكتل التي انفصلت عن الشمس هي هذه الأرض التي نعيش فيها.

قال كاتب هذا المقال قد يستأنس بعض الناس لإثبات هذه النظرية بقوله تعالى «أولم ير الذين كفروا إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما» الآية. 

ونحن لا نريد أن نتعرض لهذا الاستئناس بنفي ولا إثبات لأن ذلك يتطلب بحثا دقيقا وأناة وصبرا ومقالا منفردا، ولكن نريد أن نبين للمغرورين من الشاكين والمغررين من المشككين أن مثل هذه النظريات التي يحاول علماء الفلك أن يحلوا بها المشكلات الكونية هي أضعف من أن يعتمد في نفي وجود الباري جل وعلا وإبداعه للكائنات وتدبيره لشؤونها بغاية الأحكام والإتقان، كما قال تعالى في سورة السجدة «ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه» وقال تعالى في سورة النمل «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء أنه خبير بما تفعلون». وقد انتقدت طائفة من علماء الفلك هذه النظرية ولم يقبلوها.

وهناك نظريات أخرى في تكوين الأرض ليست أقوى ولا أبعث على الطمأنينة من النظرية السالفة وذلك يدل على قلة ما وصل إليه علم الإنسان من أسرار خلق السماوات والأرض، قال تعالى «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» وقال تعالى في سورة آل عمران «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب».

ثم نعود إلى الكلام على هذه الأرض التي خلقنا الله فيها وأمرنا بالنظر والتفكر فيها، فقال سبحانه «آفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الأرض كيف سطحت» قال العلماء أن هذه الأرض صغيرة الحجم بالنسبة إلى غيرها فهي من هذه الوجهة ليست من الإجرام الفلكية المهمة. ومع ذلك قام الدليل على أنها أهم كوكب نعرفه.

ولنفرض أن الأرض مؤلفة من العناصر الموجودة في الشمس لا غير، فهذه العناصر موزعة في الأرض كل واحد منها له نسبة مئوية وهذه الأجزاء التي خبرناها على وجه الأرض توزيعها في غاية الدقة والإتقان، يدل العالم به أن وراءه مدبرا عالما قديرا منزها عن الوهم والنقص، ثم أن حجمها نفسه قد روعي فيه مقدار معلوم لا يمكن أن يزيد ذرة ولا أن ينقصها. فسرعة دورانها في فلكها حول الشمس مقدرة تقديرا في غاية الدقة، ودورانها على محورها مقدر كذلك ومحدد بحيث لو وقع فيه اختلاف بثانية واحدة فقط في مدة مائة سنة لانقلب الحساب الفلكي كله وتغيرت حدوده.

ويرافقها كوكب يعرف بالقمر، وحركاته مقدرة بدقة وله دورة محدودة تبتدئ وتنتهي في ثماني عشرة سنة وثلاثة أرباع السنة. ولو كان حجم الأرض أكبر مما هو عليه أو أصغر أو كانت سرعتها على غير ما هي عليه لكانت المسافة التي بينها وبين الشمس أبعد أو أقرب، وهذه الحالة تؤثر تأثيرا بليغا في جميع أنواع الحياة التي على وجه الأرض ومنها حياة الإنسان.

قلنا إن اختلاف سرعتها في دورانها يؤثر في بعد المسافة أو قربها وفي كلتا الحالتين من القرب والبعد لا يمكن أبدا وجود الحياة على وجه الأرض على الوجه الذي نعرفه، والأرض من بين جميع الكواكب السيارة، وسب ما نعلمه حتى الآن هي الكوكب الوحيد الذي بسبب علاقته بالشمس صار في الإمكان وجود هذه الحياة التي نحياها فيه.

قال كاتب المقال : «قال العلماء : إن العناصر التي تتألف منها الأرض موزعة بمقادير دقيقة لا تزيد ذرة ولا تنقصها»، فمن الذي قدرها قبل خلقها وأنشأها على وفق علمه وحفظ تلك المقادير محدودة بالحد الذي حده والنظام الذي أبدعه أليس هو الله رب العالمين القائل في سورة الذاريات «والأرض فرشناها فنعم الماهدون» وقال تعالى في سورة النازعات «والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم».

ومن الذي جعل حجم الأرض على ما هو عليه وعلم أنه لو زاد على هذا القدر لما أمكن وجود الحياة على ظهر الأرض ولبطل خلقها وإنشاؤها) أليس هو الله ربا للعالمين ؟.

ومن الذي جعل الأرض تدور حول الشمس في مدة سنة وتدور على محورها في أربع وعشرين ساعة، ولو زادت ثانية واحدة وهي جزء من ستين جزءا من الدقيقة في مدة مائة سنة لاختل نظامها : أيمكن أن يوجد هذا كله على سبيل المصادفة بلا علم ولا تدبير ولا هيمنة ؟ كل من أدنى مكة من العقل والإنصاف يعلم يقينا أن وراء ذلك الصنع العجيب مدبرا عليما حكيما فتبارك الله أحسن الخالقين.

 ومن الذي جعل هذا القمر يرافق الأرض دائرا حولها بحساب دقيق معلوم في منازله وفي المقادير التي تظهر منه هلالا فقمرا منيرا فبدرا تاما ثم يتناقص حتى يختفي ثم يعود هلالا مرة أخرى، أليس هو القائل في سورة يس «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون» أليس هو القائل «هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ظلال مبين».

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK | تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني pkk   تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي. "لماذا تعتبر تركيا محاربة تنظيم حزب العمال الكرد...