الحزبية المقيتة
الشيخ أبو أويس رشيد بن أحمد الإدريسي
» ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب«
مما هو معلوم عند العقلاء فضلا عن العلماء أن الأصل: لزوم
الجماعة، وتحريم الفرقة والانسلال عن ربقة الوفاق التي تؤول بالأمة إلى التحزب
المقيت.
قال صفي الرحمن المباركفوري: "الحزب لغة: صنف من الناس
تجمعهم صفة جامعة أو مصلحة شاملة من رابطة العقيدة والإيمان أو الكفر والفسق
والعصيان، أو رابطة الأرض والوطن، أو القبيلة والنسب، أو المهنة واللغة، أو ما
يشاكلها من الروابط والأوصاف والمصالح التي اعتاد الناس أن يجتمعوا عليها ويتكثلوا
حولها" الأحزاب السياسية في الإسلام 7.
فالتحزب إذن هو التجمع على شيء معين، يقال للجماعة من الناس:
حزب.
والتحزب قد يكون محمودا، وقد يكون مذموما:
فالمحمود ما كان لجماعة المسلمين على وفق الحق والصواب، فهؤلاء
هم حزب الله الذين قال الله فيهم: "أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
أما التحزب المذموم فهو الخروج عن جماعة المسلمين إلى تجمعات
أخرى تلتقي على مفارقة الجماعة والشذوذ عن الولاية واتباع الهوى ومخالفة الكتاب
والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فهؤلاء {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما رأس الحزب فإنه رأس
الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من
غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا
في ذلك ونقصوا مثل: التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل
في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله،
فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن الفرقة
والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان"
الفتاوي 11/92.
فالحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف
الصالح القائمة على الولاء ولو للباطل، والبراء ولو من الحق، المتسمة بالانحراف عن
القرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة: فرقة منهي عنها فكم أوهنت حبل الاتحاد
الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.
أي شيء نراه داء عضالا *** مثل ما في البلاد
من أحزاب
يزعم الكل أنه في طريق*** سار فيه الرسول
بالأصحاب
فرقوا الدين ثم جاءوا بشيء *** ليس في سنة ولا
في كتاب
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ
وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ".
قال السعدي رحمه الله في تفسير اللآية: "يتوعد تعالى الذين
فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكل أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد
الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل بها إيمانه،
بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال
أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى
عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: "لَسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ" أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك" تيسير
الكريم الرحمن 2/91-92.
وقال الحسن رحمه الله: (خرج علينا عثمان رضي الله عنه يوما
يخطبنا، فقطعوا عليه كلامه، فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أبصر أديم السماء، قال:
وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هذا صوت أم المؤمنين
-قال القاضي إسماعيل: أحسبها أم سلمة رضي الله عنها-، قال فسمعناها وهي تقول: (ألا
إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب) وتلت: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ
دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ") الاعتصام 1/80.
ومن مشاهير السنن في الصحيحين وغيرهما قوله عليه الصلاة
والسلام: "لا حلف في الإسلام".
قال الشيخ مصطفى وصفي رحمه الله: "لا حلف في الإسلام،ومن
أجل هذا العقد العام -أي عقد الإسلام والالتزام به، أوامره ونواهيه- قرر الفقهاء
أنه لا حلف في الإسلام، وكفى بعقد الإسلام حلفا، فلضرورة المساواة بين المسلمين في
هذا العقد العام لا يجوز أن يتحالف بعض المسلمين من دون بعضهم الآخر، إذ إن ذلك
يميز الحلفاء على سائر المسلمين، ويجعل لهم حقوقا ليست لسائرهم، هذا ولو لم يكن
تحالف البعض نكاية في البعض الآخر.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأقر ما تم من أحلاف
الجاهلية، كحلف المطيبين، وقال: لا حلف في الإسلام أو لا تحالف في الإسلام وهو
متفق عليه، وفي أكثر من مناسبة" مصنفة النظم الإسلامية 331.
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله معلقا: "فانظر
قوله السديد،وتعليله السليم: (لأن مجرد التمييز بمحالفة خاصة، يضع غير الحليف في
مكان أدنى من الحليف).
وهكذا الانتماء إلى الفرق المعاصرة، يجعل المنتسب إليها في مكان
فوق غيره - في نظرهم-" حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية
123.
وليعلم أن للحزبية المذمومة جملة من المظاهر من أهمها:
1 – تنصيب
شخص وكلام يتم الولاء والعداء عليه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا
يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي عليه الصلاة والسلام، ولا ينصب لهم
كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وما اجتمعت
عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين
الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون" الفتاوي20/164.
وقال كذلك:" فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص
إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل
ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول
والفعل فهو من {الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} الآية وإذا تفقه الرجل وتأدب
بطريقة قوم من المؤمنين مثل اتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه
هم العيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم" الفتاوي20/9.
2 – المعاهدة
أو المبايعة للمرشد وجماعته.
في الأثر أن معاوية رضي الله عنه سأل ابن عباس رضي الله عنه:
"أنت من ملة عثمان أو على ملة علي فقال: لست على ملة علي ولا ملة عثمان بل
أنا على ملة رسول الله عليه وسلم. منهاج السنة 2/96.
وسئل الإمام السيوطي رحمه الله عن رجل من الصوفية أخذ العهد على
رجل ثم اختار الرجل شيخا آخر وأخذ عليه العهد فهل الأول لازم أم الثاني؟
فقال رحمه الله: "لا يلزمه العهد الأول ولا الثاني ولا أصل
لذلك" الحاوي للفتاوي 1/253.
وقال ابن الجوزي رحمه الله:" وذكر محمد بن طاهر في كتابه
فقال : باب السنة فيما شرط الشيخ على المريد في لبس المرقعة واحتج بحديث عبادة
بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر.
قال المصنف( أي: ابن الجوزي): فانظر إلى هذا الفقه الدقيق1!
وأين اشتراط الشيخ على المريد من اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب
الطاعة على البيعة الإسلامية اللازمة؟!"تلبيس إبليس 251 – منتقاه.
قال الشيخ علي حسن الحلبي حفظه الله معلقا:" ومثل هذا
تماما – مع اختلاف الشكل والمسمى – ما يفعله الحزبيون في هذا العصر، من أخذ العهد
والميثاق والشارة، ونحو ذلك مما هو
باطل بيقين" المنتقى النفيس 251 - حاشية.
وعن مطرف قال: "كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد
الله، أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع.
فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابا، فنسقوا كلاما من هذا النحو: إن
الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا،
ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا.
قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا، فيقولون: أقررت يا فلان
؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أقررت يا غلام ؟ قلت: لا، قال يعني زيدا: لا تعجلوا على
الغلام، ما تقول يا غلام ؟ قلت: إن الله قد أخذ علي عهدا في كتابه، فلن أحدث عهدا
سوى العهد الذي أخذه علي.
فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحد.
وكانوا زهاء ثلاثين نفسا".حلية الأولياء 2/233، وعنه
الذهبي في السير4/192، وكذا ابن سعد في الطبقات7/142.
3- السرية في أمر الدعوة –
عموما -.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله :" إذا رأيت قوما يتناجون
في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة" رواه الإمام أحمد
رحمه الله في كتاب الزهد له 408، وأورده الإمام ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس
إبليس وعلق عليه الشيخ علي حسن الحلبي حفظه الله بقوله :"فديننا – ولله الحمد
– جلي ظاهر، لا خفاء فيه، ولا دس، ولا كتمان، ولا أسرار، فما يفعله الحزبيون من
ذلك إنما هو باب ضلالة والعياذ بالله تعالى" المنتقى النفيس 89 – حاشية.
واستدلال بعض الجماعات على مشروعية السرية في الدعوة بكون
الدعوة الإسلامية في بادئ الأمر مرة بمرحلة السرية ، هو من أبطل الاستدلال لأن
الدعوة آنذاك كانت سرية ضد الكفار ولم تكن من بعض المسلمين ضد إخوانهم المسلمين
الآخرين فتأمل.
ومن دلائل ضلال الحزبية المقيتة كونها صارفة عن الهدى، ذلك لأن
المرء إذا كان متحزبا مندرجا تحت لواء الحزب، فإنه يعمل ضمن ضوابطه وأسسه، وهذه
الضوابط تقيد العضو فيها من التحرر من كثير من باطل الحزب وأخطائه إذا ظهر له ذلك،
وأقل أحواله السكوت مراعاة لتوهم مصلحة الحزب، والتي ربما توهم أنها متلازمة مع
مصلحة الإسلام!!
وعليه كان من أعظم مضار الحزبية المقيتة: أنها صارفة عن الحق
المبين.
ولهذا نجد الإمام ابن قتيبة رحمه الله عند حديثه عن أسباب عدم
الانقياد للحق ذكر من ذلك: خوف تفرق الحزب، وانفراط عقد نظامه، فيؤخر قول الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتقدم بين يديه من أجل الحزب.
فقال رحمه الله: "وفي ذلك - يعني قبول نصيحته- أيضا تشتيت
جمع وانقطاع نظام واختلاف إخوان، عقدتهم له النحلة والنفوس، بل تطيب بذلك إلا من عصمه
الله ونجاه" الاختلاف في اللفظ 21.
وقال العلامة محمد الصالح العثيمين رحمه الله:" فيجب على
طالب العلم أن يتخلى عن الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة
معينة أو على حزب معين فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزاباً
بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله – عز وجل -: ] هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل ُ[ .
فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما
جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلاً من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها
ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلاً عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى
وإن كانوا أقرب إلى الحق منها، ويأخذ مبدأ: من ليس معي فهو علي، وهذا مبدأ خبيث؛
لأن هناك وسطاً بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في
الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))
ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في
المسلمين، وتنوعت الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويأكل لحم أخيه
ميتاً، لحقهم الفشل كما قال الله تعالى:] وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ [ لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ
بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن
سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة
وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ". كتاب " العلم" له 81.
وفي الختام : الحذر الحذر من أحزاب وطوائف طاف طائفها، ونجم
بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب، تجمع الماء كدرا وتفرقه هدرا، فالموفق من سار
على وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؟.
قال العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله:" إن طريق العلم
محفوف بالعوائق، من مقت يحيق، ووقت يضيق، وإن الأقدار قد وضعت في طريقكم إلى العلم
عائقاً جديداً هو شر العوائق وأضرها..هو هؤلاء الدعاة الغاشُّون، والسماسرة
المضلون، يدعونكم إلى السياسة، ليصدوكم عن العلم، والى الحزبية، ليفرقوكم من
الجماعة، والى الوطنية، ليشغلوكم باسمها عن حقيقتها، ويلهوكم بلفظها عن تحصيل أقوى
وسائلها، وهو العلم،إنهم يملؤونكم بالخيالات صغاراً، لتفرغوا من الحقائق
كباراً،وإنه لنوع من التسميم المرجأ لا يشعر به المصاب إلا بعد فوات الوقت".
عيون البصائر351 .
أبو أويس الإدريسي عامله الله بلطفه الخفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق