بسم الله الرحمن الرحيم
ظاهرة ( التهريج )! في الوعظ ..
الوعظ أسلوب دعوي له أهميته البالغة في إصلاح
القلوب ، وتهذيب النفوس ، وهو من المسالك النبوية حيث كان عليه الصلاة والسلام
يتعهد أصحابه - رضي الله عنهم - بالمواعظ ، ويهذب نفوسهم بما يرقق قلوبهم ، قال
سبحانه في حقه : { مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله } ..
والموعظة كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : " الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب " التفسير القيم ص: 34 4.
ومما يجب مراعاته في هذا المقام : لزوم الجادة في الوعظ وفق الهدي النبوي ، والمنهج السلفي ، فاتخاذ مسلك معين في ذلك على خلاف ما كان في الزمن الأول من ( البدع)! ..
فلا بد - إذن - من آداب عند الوعظ ، وشروط وضوابط تُذكر عند المتشرعة تحت عنوان ( فقه الوعظ)! ، وبسط الكلام في هذا طويل ، وليس هو المقصود بهذا المرقوم ، وعموما فالوعظ كغيره يحتاج إلى أهلية ومعرفة وملكة تخصه..
قال العلامة جمال الدين القاسمي - رحمه الله - : " موعظة العامة والتصدي لإرشادهم في الدروس العامة ، من الأمور المهمة المنوطة بخاصة الأمة ، إذ هم أمناء الشرع ، ونور سراجه ، ومصابيح علومه ، وحفاظ سياجه " موعظة المؤمنين ص: 3 .
ومن الظواهر التي ابتليت بها الساحة الدعوية من بعضهم فيما نحن بصدده : التوجه لوعظ الناس ونصحهم ب ( أسلوب التهريج 1 )! ، وهذا من المسالك المبتدعة المنكرة القبيحة.. ، ولا يُسعف في ذلك صحة نية فاعلة ، لأن " النيات الصحيحة لا تٌجَوز المسالك المخالفة للجادة المليحة"!.. ، كما لا يُسعف انتفاع بعض الناس بذلك ، لأن " حصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته " كما قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوي 1/ 264 ، ف ( الغاية لا تُسَوغ الوسيلة)!..
ولذا وجدنا السلف الصالح قد بدعوا طريقة القصاص 2 الذين انتهجوا طريقة في وعظ الناس وإرشادهم على خلاف ما دلت عليه الشريعة مع أن ( قصدهم نفع الناس وتوجيههم للخير)! ..، بل ( قد يتذكر بصنيعهم الغافل ، ويرتدع الفاسق)! ..، فتذكر..
قال الحافظ زين الدين العراقي - رحمه الله - في كتابه : ( الباعث على الخلاص من حوادث القصاص) ص: 68 بتحقيق محمد الصباغ ، بعد أن ساق حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - : " فكان مما ( أُحدث) بعده - عليه الصلاة والسلام - ما أحدثه القصاص بعده ، مما أنكره جماعة من الصحابة عليهم .. " .
وقال الدكتور محمد الصباغ في كتابه ( تاريخ القصاص) نقلا عن محقق كتاب ( المذكرة والتذكير والذكر ) ص : 30 بتصرف : " وقد يظن ظان أن موضوع إفساد القصاص لم يعد موجودا الآن ، وإنما هو أمر تاريخي بحت لا يتصل اليوم بواقع الحياة والناس ، وهذا ظن خاطئ بعيد عن الصواب ، ذلك لأن هؤلاء القصاص ما زالوا مع الأسف موجودين بأسماء أخرى يعيثون في الأرض فسادا ، ولئن كان المخادعون الدجالون يظهرون تحت عنوان (القصاص) فيما مضى ، فإنهم يظهرون في أيامنا هذه تحت عنوان (الداعية)، و (الموجه)، و (المربي)، و ( الأستاذ) ، و (الكاتب)، و ( المفكر) ...، وما إلى ذلك من الألقاب الرنانة ، ويبدو أن المجاملة التي ليست في محلها أسهمت في تأخير كشف حقيقة هذا النفر... ، فما يزال كثير من الناس لا يعرفون هؤلاء القوم على حقيقتهم ، ويخلطون بين هؤلاء الجهال وبين الدعاة إلى الله الواعين الصادقين " انتهى.
والذي يؤكد ( بِدْعية) أسلوب التهريج في الوعظ ، مخالفته للحقيقة الشرعية لمفهوم الموعظة في القرآن ..
قال تعالى : { وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } ، ومثله ما جاء في حديث العرباض - رضي الله عنه : " وعظنا رسول الله - عليه الصلاة والسلام - موعظة (بليغة)! ".
وقال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدرر وهدى ورحمة للمؤمنين }.
فتأمل لفظة : ( بليغا) ، ( بليغة)، ( شفاء) ، (هدى) ، (رحمة)
فمعاني هذه الألفاظ تباين كل المباينة أسلوب التهريج في الموعظة (!!) ...
وجماع مفهوم الحقيقة الشرعية للوعظ في القرآن : ( الموعظة الحسنة) ..
قال تعالى : { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }.
قال البيضاوي - رحمه الله في تفسير الآية : " ..( بالحكمة): بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق ، المزيح للشبهة ، ( والموعظة الحسنة) : الخطابات المقنعة ، والعبر النافعة ، فالأولى : لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق ، والثانية : لدعوة عامتهم. ( وجادلهم) : وجادل معانديهم ، ( بالتي هي أحسن) : بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر، فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم ، وتبيين شغبهم " تفسير البيضاوي.
وعليه ؛ فلابد أن يكون الواعظ في وعظه على منهج صحيح ، وأسلوب مليح بعيدا عن ( التهريج والفكاهة)!! ..، ولا تستهن - يا رعاك الله - بمغزى هذه المقالة ، فإن أهميتها تكمن في ضرورة إصلاح الواسطة أي : من يعظ الناس وينصحهم ويوجههم فإنه واسطة بين الله وعباده فتنبه.
قال ابن الجوزي - رحمه الله - :" كان الوعاظ من قديم الزمان من العلماء والفقهاء ... حتى إذا خست هذه الصناعة تعرض لها الجهال فأعرض عن الحضور المميزون من الناس ، وتعلق بهم العوام والنساء ، فلم يتشاغلوا بالعلم ، وأقبلوا على القصص ، وما يعجب الجهلة ، و(تنوعت البدع في هذا الفن)!! " تلبيس إبليس ص : 123 .
قلت : هذا قوله - رحمه الله - في زمانه ، فما الذي سيقوله لو أدرك زماننا ؟!
والله المستعان ..
.................................
1. إذا كانت " الدُّعابة بشرطها " عارضة وأحيانا في ثنايا الموعظة كالملح في الطعام.. ، فلا بأس في ذلك..
2. ورد عن بعض السلف والعلماء الحث على "القصص" ، والدعوة إلى سلوك مسلك "القص"، لكن المقصود بذلك : الوعظ والتذكير وفق ما جاء في الكتاب والسنة ، وأنصح في خصوص موضوع القصاص بقراءة كتاب : ( منهج القصاص في الدعوة إلى الله) للدكتور عبد الله بن إبراهيم الطويل.
كتبه :
أبو أويس رشيد بن أحمد الإدريسي الحسني - عامله
الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق