الإيمان بالله تعالى
فأما الإيمان بالله فيتضمَّنُ أربعة
أمور :
الأول : الإيمان بوجود الله- تعالى -
:
وقد دلَّ على وجوده - تعالى -: الفطرة
، والعقل ، والشرع ، والحس .
1- أما دلالة
الفطرة على وجوده - سبحانه- :
فإنَّ كل مخلوق قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير ، أو تعليم ،
ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطـرة إلاَّ من طرأ على قلبـه ما يصرفه عنها
؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من مولود إلا و يولدُ على الفطرة ،
فأبواهُ يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ) (1)
.
2- وأما دلالة العقل على وجود الله-
تعالى - فلأن هذه المخلوقات : سابقها ولاحقها ، لابد لها من خالق أوجدها ، إذ لا
يمكن أن توجد نفسها بنفسها ؛ ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها ؛ لأن
الشيء لا يخلقُ نفسه ؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقـًا ؟!
ولا يمكن أن توجد صدفة ؛ لأن كل حادث
لابد له من محدث ، ولأن وجودها على هذا النظام البديع ، والتناسق المتآلف ، و
الارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها ، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنعُ
منعـًا باتـًّا أن يكون وجودها صدفة ، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده
فكيـف يكـون منتظمـًا حـال بقائه وتطـوره ؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلـوقات
نفسهـا بنفسها ، ولا أن توجد صدفة ؛ تعيَّن أن يكون لها موجد هو الله رب العالمين
.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي
، و البرهان القطعي ، حيث قال : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [ سورة الطور : 35]. يعني : أنهم
لم يُخْلَقُوا من غير خالق ، ولا هم الذين خلقُـوا أنفسهـم ؛ فتعين أن يكـون
خالقـهم هو الله تبارك و تعالى ، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم t رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور
فبلغ هذه الآيات : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السموات وَالأرْضَ
بَل لا يُوقِنُونَ *
أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ) [سورة الطور : 35-37].
وكان جبير يومئذ مشركًا قال : (كاد
قلبي أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي ) (2)
.
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك : فإنه لو
حدَّثك شخص عن قصرٍ مشيَّد ، أحاطتْ به الحدائق ، وجرت بينها الأنهار ، ومُلئ
بالفرش والأسِرَّة ، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته ، وقال لك : إنَّ
هذا القصر وما فيه من كمال قد أوْجد نفسه ، أو وُجِد هكذا صدفة بدون مُوجد ؛
لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهـًا من القول ، أفيجوز بعد ذلك أن
يكون هذا الكون الواسع: بأرضه ، وسمائه ، وأفلاكه ، وأحواله ، ونظامه البديع
الباهر ، قد أوجَدَ نفسه ، أو وُجد صدفة بدون موجد ؟!
3-
وأما دلالة الشرع على وجود الله - تعالى- : فلأن الكتب السماوية كُلَّها
تنطقُ بذلك ، وما جاءت به من الأحكام العادلة المتضمنة لمصالح الخلق ؛ دليل على
أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه ، وما جاءت
به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها ؛ دليل على أنها من رب قادر
على إيجاد ما أخبر به .
4- وأما أدلة الحس على وجود الله ؛
فمن وجهين: أحدهما : أننا نسمعُ ونشاهدُ من إجابة الداعين ، وغوث المكروبين ، ما
يدلُ دلالة قاطعة على وجوده تعالى ، قال الله سبحانه: (وَنُوحًا
إِذ نـَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ) [سورة الأنبياء: 76]
، وقال تعالى: (إِذ تـَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [سورة الأنفال : 9].
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك t قال : إنَّ أعرابيـًّا دخل يوم الجمعة - والنبي
صلى الله عليه وسلم يخطبُ - فقال : يا رسول الله ، هلك المال ، وجاعَ العيال ،
فادع الله لنا ؛ فرفع يديه ودعا ؛ فثار السحاب أمثال الجبال ، فلم ينزل عن منبره
حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته . - وفي الجمعة الثانية ، قام ذلك الأعرابي ، أو
غيره فقال : يا رسول الله - تهدم البناء ، وغرق المال ، فادع الله لنا ؛ فرفع يديه
، وقال : (اللهم حوَاليْنا ولا عَلَيْنَا ، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت) (3) .
وما زالت إجابة الداعيـن أمرًا
مشهودًا إلى يومنا هذا ؛ لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى ، وأتى بشرائط الإجابة .
الوجه الثاني : أنَّ آيات الأنبياء
التي تسمَّى المعجزات ويشاهدها الناس ، أو يسمعون بها ، برهان قاطع على وجود
مرسلهم ، وهو الله تعالى؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر ، يجريها الله تعالى ؛
تأييدًا لرسله ، ونصرًا لهم .
مثال ذلك آية موسى صلى الله عليه وسلم
حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر ، فضربه ؛ فانفلَق اثنى عشر طريقـًا
يابسـًا ، والماء بينها كالجبال ، قال الله تعالى : (فَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) [سورة الشعراء : 63].
ومثال ثانٍ: آية عيسى صلى الله عليه
وسلم حيث كان يحيي الموتى ، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله ، قال الله تعالى عنه : (وَأُحْيـِي الْمَوْتَى بـِإِذنِ اللّهِ) [سورة آل
عمران : 49] ، وقـال : ( وَإِذ تُخْرِجُ الْمَوتَى
بـِإِذنِي) [سورة المائدة :110] .
ومثال ثالث : لمحمد صلى الله عليه
وسلم حين طلبت منه قريش آية ، فأشار إلى القمر ؛ فانفلق فرقتين ، فرآه الناس، وفي
ذلك قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ
الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)
[سورة القمر : 1-2] .
فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها
الله تعالى ؛ تأييدًا لرسله ، ونصرًا لهم ، تدلُ دلالة قطعية على وجوده تعالى.
الأمر الثاني مما يتضمنه الإيمان
بالله : الإيمان بربوبيَّته أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين .
والرب : من له الخلق ، والملك، و
الأمر ، فلا خالق إلا الله ، ولا مالك إلا هو، و لا أمر إلا له ، قال تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [سورة الأعراف :
54] وقال :( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)
[ سـورة فاطـر : 13].
ولم يعلم أن أحدًا من الخلق أنكر
ربوبية الله
سبحانه ، إلا أن يكون مكابرًا غير
معتقد بما يقول، كما حصل من فرعون ، حين قال لقومه : (أَنَا
ربُّكم الأَعلى) [سورة النازعات : 24] وقال : (يَا
أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [سورة القصص :
38] ، لكن ذلك ليس عن عقيدة ، قال الله تعالى : (وَجَحَدُوا
بـِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [سورة النمل :
14] . وقال موسى لفرعون ، فيما حكى الله عنه : ( لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي
لأظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا) [سورة الإسراء : 102] ولهذا
كان المشركون يقرُّون بربوبية الله
تعالى ، مع إشراكهم به في الألوهية ، قال الله تعالى : ( قُل
لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذكَّرُونَ * قُلْ مَن
رَّبُّ السموات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بـِـيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجـِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُم تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) [سـورة المؤمنون : 84-89].
وقال الله تعالى : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [سورة الزخرف : 9].
وقال سبحانه : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة الزخرف : 87].
وأمر الله سبحانه شامل للأمر الكوني
والشرعي ، فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد ، حسب ما تقتضيه حكمته ، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادات ،
وأحكام المعاملات ، حسبما تقتضيه حكمته ، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرِّعـًا في
العبادات ، أو حاكمـًا في المعاملات ؛ فقد أشرك به ، ولم يحقق الإيمان .
الأمر الثالث مما يتضمنه الإيمان
بالله : الإيمان بألوهيَّته أي : بأنه وحده الإله الحق لا شريك له ، و(الإله)
بمعنى : (المألوه) أي : (المعبود) حبًّا وتعظيمًا .
قال تعالى : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
الرَّحْمَـنُ الرَّحِيـمُ ) [ سـورة البقرة : 163] ، وقـال تعالى : ( شَهِـدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُـوَ
وَالْمَلاَئِكَـةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمـًا بالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [سورة آل عمران : 18 ] ، وكل من اتخذ إلهـًا
مـع الله ، يعبد مـن دونه ؛ فألوهيته باطلة ، قال الله تعالى : (ذلِكَ بـِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبـِيرُ) [سورة الحج : 62]. وتسميتها آلهـة ؛ لا يعطـيها حق الألـوهيـة
، قــال الله تعـالى في ( اللات والعزى ومناة ) :
( إِنْ
هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ
بـِهَا مِن سُلْطَانٍ) [سورة النجم : 23] .
وقال عن هود : إنه قال لقومه : ( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ
وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) [سورة الأعراف : 71]
.
وقال عن يوسف - عليه السلام - أنه قال
لصاحبي السجن : (أَأَرْبَابٌ
مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا
أَنزَلَ اللّهُ بـِهَا مِن سُلْطَانٍ) [سورة يوسف : 39 ، 40]
ولهذا كانت الرسل - عليهم
الصلاة والسلام -يقولون لأقوامهم : (اعْبُدُواْ
اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [سورة الأعراف : 59] ، ولكن أبى
ذلك المشركون ، واتخذوا من دون الله آلهة ، يعبدونهم مع الله سبحانه و تعالى ،
ويستنصرون بهم ، ويستغيثون .
وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين
هذه الآلهة ببرهانين عقليين :
الأول : أنه ليس في هذه الآلهة التي
اتخذوها شيء من خصائص الألوهية ، فهي مخلوقة لا تخلقُ، ولا تجلب نفعـًا لعابديها ،
ولا تدفع عنهم ضررًا ، ولا تملك لهم حياة ، ولا موتـًا ، ولا يملكون شيئـًا من
السموات ، ولا يشاركون فيه.
قـال الله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا
وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا
يَمْلِكُـونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُـورًا) [سورة الفرقان :3] .
وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سورة سبأ : 22 ، 23] وقال تعالى :
(أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)
[سورة الأعراف : 191 ، 192] .
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة ؛ فإن
اتخاذها آلهة من أسفه السفه ، وأبطل الباطل .
والثاني : أن هؤلاء المشركين ، كانوا
يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجيرُ ولا
يُجارُ عليه ، وهذا يستلزم أن يوحِّدوه بالألوهية ، كما وحَّدوه بالربوبية ، كما
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشـًا وَالسَّمَاء بـِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بـِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقـًا لَّكُمْ فَلاَ
تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ ) [سورة البقرة : 21 ، 22] .
وقال تعالى : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة الزخرف : 87] .
وقال تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن
يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ
اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ
فَمَـاذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْـرَفُونَ ) [سورة يونس : 31 ، 32]
الأمر الرابع مما يتضمنه الإيمان
بالله : الإيمان بأسمائه وصفاته :
أي : إثبات ما أثبته الله لنفسه في
كتابه ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء ، و الصفات ، على الوجه
اللائق به من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، و لا تمثيل ، قال الله تعالى :
(وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بـِهَا
وَذرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف : 180] ، وقال تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَواتِ وَالأرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة الروم : 27] ، وقال تعالى
: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ) [سورة الشورى : 11]
وقد ضلَّ في هذا الأمر طائفتان :
إحداهما : (المعطِّلة) الذين أنكروا
الأسماء و الصفات ، أو بعضها ، زاعمين أن إثباتها لله يستلزم التشبيه ، أي : تشبيه
الله تعالى بخلقـه ، وهذا الزعم باطل ؛ لوجوه ، منها :
الأول : أنه يستلزم لوازم باطلة ؛
كالتناقض في كلام الله سبحانه ، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء ، والصفات ، ونفى أن يكون كمثله شيء ،
ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه ؛ لزم التناقض في كلام الله ، وتكذيب بعضه بعضـًا
.
الثاني : أنه لا يلزم من اتفاق
الشيئين في اسم أو صفة أن يكونا متماثلين ، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلاًّ
منهما إنسان سميع ، بصير ، متكلم ، ولا يلزم من ذلـك أن يتماثلا في المعـاني
الإنسانية ، والسمع ، والبصـر ، والكلام ، وترى الحيـوانات لها أيدٍ ، وأرجلٌ ،
وأعينٌ ، ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها ، وأرجلها ، وأعينها متماثلة .
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما
تتفقُ فيه
من أسماء ، أو صفات ؛ فالتباين بين
الخالق و المخلوق أبين وأعظم .
الطائفة الثانية : (المشبهة) الذين
أثبتوا الأسماء
والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه ،
زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص ؛ لأن الله تعالى يخاطب العباد بما يفهمون ،
وهذا الزعم باطل ؛ لوجوه منها :
الأول : أن مشابهة الله تعالى لخلقـه
أمر يبطله العقل ، والشرع ، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرًا
باطلاً .
الثاني : أن الله تعالى خاطبَ العباد
بما يفهمون من حيث أصل المعنى ، أما الحقيقة والكُنْه الذي عليه ذلك المعنى ؛ فهو
مما استأثر الله تعـالى بعلمـه فيما يتعلق بذاته ، وصفاته.
فإذا أثبت الله لنفسه أنه سميع ؛ فإن
السمع معلوم من حيث أصل المعنى ، (وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى
سمع الله تعالى غير معلومة ؛ لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات ؛ فالتباين
فيها بين الخالق و المخلوق أبين وأعظم .
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه
استوى على عرشه ؛ فإن الاستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الاستواء التي
هو عليها غير معلومة لنا بالنسبة إلى استواء الله على عرشه ؛ لأن حقيقة الاستواء
تتباين في حق المخلوق ، فليس الاستواء على كرسي مستقر كالاستواء على رحل بعير صعب
نفور ، فإذا تباينت في حق المخلوق ؛ فالتباين فيها بين الخالق و المخلوق أبين و
أعظم .
والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا
يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة ، منها :
الأولى : تحقيق توحيد الله تعالى ،
بحيث لا يتعلق بغيره رجاء ، ولا خوف ، ولا يعبد غيره .
الثانية : كمال محبة الله تعالى ،
وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا .
الثالثة : تحقيق عبادته بفعل ما أمر
به ، واجتناب ما نهى عنه .
(1) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ،
باب ما قيل في أولاد المشركين ، رقم (1319) .
(2) رواه - البخاري - مفرقـًا ، كتاب
التفسير ، باب تفسير سورة الطور ، رقم (4573) .
(3) رواه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب
الاستسقاء في الخطبـة يوم الجمعة ، رقم : (891).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق