الأحد، 30 يونيو 2013

مَبْدأ الرُّجوع والمُراجَعة..

مَبْدأ الرُّجوع والمُراجَعة


عُـمَـر السِنَوي الخالِـدي
 



كنتُ أمام أحدِ كبار المفكِّرين حينَ قال - من ضمْنِ ما قال؛ في حديثه عن الحضارة الإسلامية -:
"إنّ منَ الخطأ ما نسمعه مِن قول القائلين: (أيها الناس عليكم بالرجوع إلى الدين)؛ لأنّ الدين ليس في الخلف .. وإنما في الأمام ؛ فيجب أنْ نتقدَّم نحوه وإليه؛ فهو السابق الذي لا يتقدَّمه أيّ شيء، ولا يلحق به أيّ فِكْر أو دينٍ آخر ... ، ومن هنا جاءت تسمية المتمسّكين به عند البعض: (الرجعيّون) - للذمّ - ، والحقّ أنْ يُسَمَّوا: (المتقدِّمون والمتحضِّرون)".

كلامٌ مِن أجملِ ما سمِعتُ في مدحِ الدينِ وإظهارِ عظَمَتِهِ وتحفِيزه في قلوب الناس في عصرٍ أرى أبناءَ الأمَّة قد جعلوا دينَهم وحَضَارتَهم وراءَهم ظِهْريًّا..

ولكنْ رغْمَ فرَحي بهذا الوعْي المَتين بدينِ رب العالمين والتقدير العظيم لهذا المنهج القويم؛ إلا أنني لم أذهل عن قول رسولنا الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - إذْ قال: ((... حتى ترجعوا إلى دينكم))؛ فاستأذنتُ (الدكتور) بهذه المُداخَلة؛ ذاكراً له نَصَّ رسول الله -عليه صلاة الله- وصريحَ لفظه ومبناه؛ فجَرَّنا الحديثُ لنتَّفق على معناه:
إنَّ الرجوع لا يعني دائماً أن يكون إلى الخلف وإنما المراد به هنا: العَودةُ إلى الشيء الصحيح الذي انحرَفْنا عنه.. كَمَثلِ سائقِ سيارَّةٍ انحرفَ عن مساره الصحيح؛ ظانّاً أنَّه الأفضل والأقرب أو الأجمَل والأمتع؛ فلما أدَرَكَ الخطأ والخطر (رجع) إلى المسار الصحيح الذي هو دائماً مُتقَدِّمٌ لا يوازيه في التقدُّم والأفضليَّة مسارٌ آخر.. وما التخلُّف والرجعية إلا في سواه!

والفِعْلُ (رجَعَ) في اللغة العربية قد يحمل معانيَ أفعالٍ أخرى بحسب السياق والمعنى، مثل أن يتضمن معنى الاهتداء أو الانصراف أو الرِّدَّة أو الوَعْي أو الصحْوة أو التوْبة أو الاستدراك أو الاستشارة أو الأصالة أو النقْض...

وما دمنا في سياق ذِكْر الحديث الصحيح المشار إليه سابقاً -حديث المراجعة-؛ فلْننظر فيه ونتأمَّله بعد أن نسوقه بتمامه:
عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ في سَبِيلِ اللهِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُم حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) [«السلسلة الصحيحة» رقم (11)].

(العِينة): حِيلَةٌ يحتال بها بعض الناس على التعامل بالرِّبا..
وما أخطر الرِّبا الذي هو إعلان الحرب على الله (!)، وما أبعد الناس عن فقه الربا (!)، وما أشدَّ مكر الأعداء وتحايلهم على أحكام الله!

(أخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع): تعني الحرث والزراعة، وليس المقصود بهذه الجملة ذمّ مَن اشتغلَ بالحرْث واهتمَّ بالزرع، وإنما المقصود ذمّ مَن اشتغل بالحرث ورضي بالزرع استقتالاً منه على الدنيا حتى صار ذلك أكبر هَمِّهِ، ولم يجعله طريقةً للعَيش الكريم، ومساهمةً في صنع حضارة الأمَّة والقيام بواجباتها، و وسيلةً لإعانتِهِ على العمَل الصالح الذي هو ذخْرُه للآخِرة؛ بل إنَّ الحرث والزرع سيكون من جملة العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله إنْ أخلص النيَّة لله جلّ في علاه.

ثم؛ نتيجة الركونِ إلى الدنيا وملذَّاتها والانشغال بدينارها ودرهمها: (تُرِكَ الجهادُ في سبيل الله) وهو سنام هذا الدِّين، والمقصود به هنا: (الجهاد القِتاليّ) الذي هو حِصنُ الأُمَّةٍ والحَضَارةٍ، ورُكْنٌ من أَرْكان هيبَتِها وعَلْيائها.. بل إنَّ القتالَ شيءٌ طَبْعِيٌّ في البشَر لا تخلو عنه أُمَّةٌ ولا جيلٌ، وهو ضرورةٌ اجتماعيَّةٌ طالما كانت هناك أطماعٌ ومَظالِم.

والحديثُ عن الجهادِ لا يزال أهَمَّ تُكْأَةٍ يعتمدُ عليها أصحابُ الغزوِ الفكريّ في خلْط الحق بالباطل وتشويه صورته السمحة الناصعة ومحاولة فتح الثغرات واستغلالها عن طريق ما دَسُّوه واقتطعوه من نُصوص وقِصص أو عن طريق ممارساتِ بعض الجهَلَة والمنحرفين من أبناء هذا الدين (!) بُغْيَةَ التشكيك بهذه العبادة الكبرى والفعل الحضاريّ العظيم.. وكيف لا يُجَيِّشون جيوشَهم بأنواعها لهذا الغرض وهُم يُدركون أنَّ هذا الركن إذا استيقظ في المسلمين كما شرَعَه لهم رب العالَمين وأصبحَ ذا أثرٍ فاعلٍ في حياتهم؛ فلن تقفَ أيّ قوّةٍ - مهما بلغَتْ - في وجه الفتح الإسلامي ويقظةِ حضارةِ هذا الدين وانتشارِها.

إنَّ حديث المراجَعةِ -هذا- يَدُورُ موضوعُه حول (الركون إلى الدنيا)، وفي هذا الركون يكون فقْدان أسباب الرِّفْعة، والنَّصْر، والقوَّةِ؛ معنويَّةً -كانت- (بِصحَّة الإيمان والمعتقَد) أو ماديَّةً (بِتَوَفُّر العَتادِ والعَدَد)؛ فأمَّا المعنوية فإنَّ الله -عزّ وجلّ- يقول: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ ، وأما الماديَّة فيقول: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ .

فلَمَّا غابت هذه الأسباب والعوامل؛ سلَّط الله علينا الذلَّ، وتلكَ سنَّتُه في خَلْقِهِ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ وقد حدَّثَنَا بذلكَ في كتابه المُعْجِز في كثير من الآيات والقَصص التي ضربَها لنا للعبرة وزاد عليها بأنْ حثَّنا على أن نسير في أرضهِ فنبحث ونَتَثبَّت ونعمل.

فلْنتأمَّل كلَّ كلمة في هذه الآيات وما تعنيه وتدلّ عليه: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ .

فالأمَّة المُسْلِمة ليس لها الحصانة بالاسم الذي حَمَلتْه أو حُمِّلتْه، وهي وحضارتها عُرْضَةٌ لِتحدِّياتِ الخنوع والتدهور والانهيار مثلها مثل غيرها بمجرَّدِ غياب شروط الفعل الحضاري؛ فإنَّ استمرارية الحضارة رهنٌ بما يصنعه أبناؤها أنفسهم في ضوء المعايير والضوابط والعوامل التي إذا أُسِيءَ التعامل معها سِيقَتْ الحضارة إلى مصيرها المحتوم وتَبِعَتْها الأمَّةُ إلى حيثُ اقتضتْ سننُ الله الكونيَّة؛ فليس ثمَّة في سنن الله في الخلق محاباة أو مداجاة -حاشاه- وإنما هي الأسباب التي تقود إلى نتائجها المنطقيَّة العادلة.

فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُم)) [متفق عليه].

يلتقي هذا الحديث النبويّ الشريف -جُمْلةً- بحديثِ (المراجعة) -محورُ مَوضوعِنا- فيُشخِّص لنا السبب والداء: وهو الركون إلى الدنيا.. ثم النتيجة والبلاء: وهو الهلاك والتدهور والذل والهوان... كما فُعِلَ بمَن كان قبلنا ، وهذه هي سنَّة الله والتي جاءت في الآيات السابقة ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ .. نعَم؛ ﴿ بَيْنَ النَّاسِ وهذا يعني عموم هذه السنَّة التي لا محيص عنها، ومع ذلك فإنَّ هذا المبدأ (أي: المداولة) الذي ذكرَه الله؛ لا يأتي بصيغة حتميَّة مقفلة ونزوعٌ مُترَع بالتشاؤم كما هو الحال في المذاهب الوضعيَّة، لكنَّه -على العكسِ- يوحي بالحركة الدائمة والتجدد والأمل، ويقرر بأنَّ التاريخ ليس حكراً على أحد، ومن ثم فلا مُسَوِّغ لليأس والانهزاميَّة؛ فإنَّ الذين نراهم في القمَّة الآن ستنزل بهم حركة الزمن إلى الحضيض، والذين هُم في القاع ستصعد بهم الحركة -نفسها- من خلال فعلهم وحركتهم واختيارهم.. إلى القمَّة؛ فإنَّ المداولة الإلهيَّة تحمل شروط إيجابيَّتها التاريخية كافَّة: حركة العالَم المستمرَّة، ونتائج الصراع الفعَّال، وديمومة الأمل البشَريّ الذي يرفض الحزن والهوان.. ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾ بشرط ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ .

فلا خروجَ من الحضيض والهوان والتدهور الذي أصابَنا إلا بالعلاج الذي جاء ذِكرُه في حديث المراجعة: (حتى ترجعوا إلى دينكم).

كلامٌ فَصْلٌ، لا تشتيتَ فيه ولا تَجزئة؛ فلَمْ يُعدِّدْ أصْنافاً، ولم يرجع إلى أقربِ مذكورٍ وهو (الجهاد) ليقول (حتى تجاهدوا)! ولا إلى ما قبله ليقول (حتى تتركوا الربا أو الانشغال بالدنيا)، بل عاد إلى الأصل: (الدين) (الإيمان) (العقيدة) (التوحيد) .. ومن هنا يكون المُنطَلَق؛ فلا يتحقق اللاحق إلا بالسابق كالشجَرَة.

ووَرَدَ حديثٌ آخر -حَسَنٌ- يشبه حديث المراجعة الذي نحن بصدده؛ قال: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ)) قالوا: فكيفَ لنَا يا رسُولَ الله؟ وكيفَ نصنعُ؟ قال: ((تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الأَوَّل)) [«السلسلة الصحيحة» رقم (3165)].

وجاء في الأثرِ عن بعض أهل العلم : ((لَنْ يَصْلحَ آخِر هذه الأمَّةِ إلا بما صَلحَ به أوَّلُها، ومَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا لاَ يَكُونُ اليَوْم دِينًا)) وفي رواية: ((لَنْ يُصلِحَ آخِرَ هذه الأمَّةِ إلا ما أَصْلَحَ أوَّلَها...))، جملةٌ إنْ لمْ تكُنْ مِن كلامِ النُّبوَّة فإنَّ عليها مَسْحةً مِن النُّبوَّة، ولمحَةً مِن رُوحِها، ووَمضَةً من إشراقِها...

فعوامل صَلاحِ الأمَّة وإصْلاحِها هي ما قام به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ في مكة -أولاً-، ثم في المدينة، حسب منهجٍ عظيم جعلَهُ الله شريعةً لكل مَن أراد الصلاح والعزَّة والفوز والرفعة.

إذَنْ؛ الشرطُ واضحٌ، والعلاجُ بَيِّنٌ؛ فنهوضنا لا يكون إلا بهذه الطريقة، مبتدئين بأنفسنا... مُتَأمِّلينَ قولَ رَبِّنا: ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾، هذه الآية ذكَرَها ربُّنا في سورة الرعْد، وذكَرَ قبْلَها وبعْدَها آياتٍ كونيَّة، والآياتُ الكونيَّة لا تتغير ولا تتبدل؛ فجعلَ اللهُ هذه الآية من ضمن الآيات الكونيَّة، فلا يمكن لهذه الأمَّة أن تتغير وأن تتبدل أحوالها إلا وفق هذا التغيير، ولا يوجَد عِزٌّ للمسلمين ونهوضٌ لحضارتهم إلا وفق هذه القاعدة؛ فكلُّ شيء يُشغلنا عن هذه القاعدة لا بدّ أنْ نأباه.

لا علاج لأدواء المسلمين إلا (أنْ يكونوا مسلمين)؛ يعودون إلى العمل بدين الله الذي ارتضى لهم، ويتمسَّكون بهَدْيِ نبِيِّهم وأصحابه في منهجهم؛ لا يُعرضون عنه عِناداً ولا يتركونه تَأوُّلاً، ويُجاهدون أهواءهم ونزواتِ أنفسهم، ويخضعون لأمرِ ربِّهم.

فليسَ الرجوع إلى الإسلام أن نكتبَ -مثلاً- على الرايات: (لا إله إلا الله)، وإنما الرجوع إلى الإسلام بأنْ نَمْلأ قلوبَنا بـ(لا إله إلا الله) ونجعلُها باعثَ أعمالنا وهدفَ حياتنا.



قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK | تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي

قصة الصراع بين تركيا وتنظيم حزب العمال الكردستاني pkk   تغريدات: الدكتور محمت كانبكلي. "لماذا تعتبر تركيا محاربة تنظيم حزب العمال الكرد...